زيارة البابا للأراضي المقدسة .. الأردن أولا وإسرائيل ثالثا
اسعد العزوني
27-05-2014 03:31 PM
إنتهت زيارة البابا فرانسوا الأول ،صاحب الولاية على الفاتيكان للأراضي المقدسة ، بعد ثلاثة أيام هزت الوجدان الإسرائيلي،المبني على التزوير والتهليس وكسب الأولوية والزخم في مجال التعاطف الدولي مع "إسرائيل"،ولذلك فإن مدخلات هذه الزيارة الميمونة - التي رحب بها المسلمون على نفس وتيرة الأخوة العرب المسيحيين – جاءت بمخرجات جديدة مختلفة عن غيرها من الزيارت التي قام بها أسلافه للمنطقة.
في سابق الزيارات كانت البداية تبدأ من "إسرائيل "عبر مطار بن غوريون في اللد، وتنتهي في الأردن ذلك الجزء المتمم للأراضي المقدسة، وكان التركيز الإعلامي والحصاد السياسي،من نصيب الإسرائيليين ،بمعنى أننا كنا آنذاك ممرا ومعبرا، لا مستقرا لطلب الراحة والهدوء النفسي لقداسة البابا.
هذه المرة ،إختلف الطابق ،وقلبت المعادلة نسفا ، وكان الأردن هو المبتدأ والخبر إعلاميا ودينيا وسياسيا ، وهذا ما أزعج "إسرائيل"التي باتت تفقد زخمها التضليلي القائم على التزوير والتدليس والتهليس، لأن غبطة البابا الحالي نصب نفسه أولا كنصير للفقراء والمظلومين ، وعندما قرر زيارة الأراضي المقدسة وضع نصب عينيه أن يعبر من الأردن إلى فلسطين ،وكان له ما أراد ، وشعر براحة النفس وأحس بالسلام الداخلي قبل الخارجي ،ليس لأن هناك عشرة آلاف رجل أمن إنتشروا في الشوارع ،بل لأن طبيعتنا مجبولة على حب الآخر وإكرامه .
حظي قداسته وعند هبوطه سلم الطائرة التي أقلته من الفاتيكان بمطار عمان الدولي ، بإستقبال حافل ،ولقاء حميمي مع قيادات دينية إسلامية ومسيحية ،وإستقبال وقداس مهيبين في ستاد عمان بحضور 30 ألفا من المؤمنين ،وفيهم العدد الكبير من المسلمين تعبيرا عن الترحيب بقداسته ،والحب العميق للأخوة العرب المسيحيين الذين هم المرجعية الدينية العليا لكافة كنائس العالم المسيحية ،كون السيد المسيح وأمه البتول عليهما السلام ،ينتميان لهذه الأرض المقدسة، ونشآ وترعرعا فيها ،وكانت هذه المنطقة هي المنطلق لنشر الدين المسيحي في العالم.
في قصر الحسينية العامر بعمّان ،إستقبله جلالة الملك عبد الله الثاني بكل التحضر والواقعية والتنور،وخاطبه بالقرآن الكريم ،إعتزازا وإفتخارا بإسلامية جلالته ،ولدلالة على أن كتاب الله العزيز ،يدعو للأخوة والرحمة والتسامح، وكان اللقاء بحضور كبار رجال الدين من المسلمين والمسيحيين ،ومعهم كبار ممثلي البعثات الدبلوماسية في الأردن.
كانن مخاطبة قداسة البابا بالقرآن الكريم ،خروجا عن المألوف المتبع سابقا ،وقيل :كيف تخاطب أحدا لا يؤمن بالقرأن أصلا؟ولكن جلالته خرج عن هذا المألوف ورسخ قاعدة يجب أن تتبع في الحوار مع الآخر،ولعل هذا المنجز لو تم وحده ،لسجل سبقا فريدا لجلالته .
بدأ جلالته خطابه الترحيبي بقداسة البابا الضيف ،بالصلاة على النبي العربي العظيم،سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،وبالآية الكريمة التي تقول :
بسم الله الرحمن الرحيم
"ليسوا سواء،من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون.يؤمنون بالله واليوم الآخر ،ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر،ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين."صدق الله العظيم" "آل عمران 113-114".
هذه الآية تشتمل على العديد من الدلالات القائمة على المنطق والنقاش العلمي الهادف الهاديء، فهي أولا تتحدث عن أهل الكتاب ،وبشمولية منفرجة ،بمعنى أن القرآن الكريم والدين الإسلامي الحنيف ،بعيدان عن التكفيرية والعدمية ،ولم يجتهد جلالته في نص من عنده ربما يثير خلافا مع من يختلف حتى مع نفسه ،بل حسم الأمر وتسلح بالقرآن الكريم، بعد أن تعطر فمه بالصلاة على النبي العربي العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،الذي قال لمن سألوه عن السيد المسيح :إنه إبن الخالة؟!
أما الدلالة الأخرى التي تشع نورا مع الإيمان ،فهي أن هاتين الآيتين الكريمتين من سورة آل عمران،وكما هو معروف فإن السيدة البتول مريم العذراء الطاهرة الشريفة العفيفة عليها وعلى إبنها السلام ، هي إبنة عمران وقد وهبتها أمها لله قبل أن تولد ، وكانت تظن أنها ستنجب ولدا ذكرا ،وعندما وضعتها أنثى ،أوفت بعهدها لله،وهذا يدل على تكريم الدين الإسلامي والقرآن الكريم للسيد المسيح وأمه البتول وعشيرتها آل عمران.
وإكراما لقداسة البابا ،فقد وافق مجلس الوزراء الأردني على إصدار طوابع بريدية خاصة تخلد الزيارة البابوية للأردن ،وهذه لفتة طيبة ،يشعر بها من تخلو نفسه من الحقد والعداء للآخر لأنه آخر فقط.
خلاصة القول أن زيارة البابا للأردن وحميمية اللقاءات ،جعلته يشعر براحة النفس وهدوء البال ،وهذه هو المتطلب الأول لمن ينشد الحج في الديار المقدسة ،ليسهل عليه وله ،مناجاة الله رب العالمين وملاقاته بالصلاة كل حسب شعائره وطقوسه.
خلال زيارة قداسته لبيت لحم الفلسطينية ،قادما من الأردن ، لقي إستقبالا دافئا وحميميا أيضا ،وعقد محادثات مريحة مع القيادة الفلسطينية ،وسمع طلبات ناعمة فرضتها طبيعة المرحلة التي يبدو أنها لن تنتهي في المستقبل المنظور على الأقل ،وأعني بذلك ،الإحتلال الإسرائيلي الذي يضيق الخناق حتى على المسيحيين .
لم يكن الإستقبال الشعبي في بيت لحم لقداسته أقل هيبة من الإستقبال الرسمي ،فبيت لحم كما هو معروف ،تعج بالعبق المسيحي، لأنها شهدت فصولا كثيرة من حياة السيد المسيح وأمه البتول عليهما السلام.
مجمل القول أن كل الراحة النفسية والأمان والأمن والهدوء التي إكتنزها قداسة البابا في الأردن وبيت لحم ،تبخرت وإنقلبت إلى كابوس مرهق ومقلق ،عند زيارته للقدس ولقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بيبي نتنياهو ،الذي عامل قداسة البابا بغير ما يستحق قداسته ،لكن بما يليق بنتيناهو نفسه ،فهو لا يعرف معنى إحترام الآخر ،وما يزال يتمنطق بمنطق القوة التي تسلحت به "إسبارطة" وأصبحت ينطبق عليها قول "حضارات سادت ثم بادت" بسبب عنترية وجنون عظمة قادتها .
لم يغفر الإسرائيليون لقداسة البابا تقليده الجديد،الذي جعل فيه إسرائيل ثالثا ،رغم أن زيارته لهم إستغرقت 32 ساعة ،لكنها كانت بالنسبة لقداسته 32 دهرا ، والشيطان يقبع في التفاصيل.
إتسمت محادثات قداسته مع نتنياهو بالقساوة والإهانة والتضليل وتزوير الحقائق الذي هو ديدن يهود ،فقد جادل نتنياهو قداسة البابا حول لغة السيد المسيح الأم ،وحاول خداعه بالقول أن السيد المسيح كان يتحدث العبرية ،لكن قداسته تسلح بإيمانه وخالف نتنياهو، وقال له أن السيد المسيح كان يتحدث الآرامية ،وبعد أن أسقط في يد نتنياهو ، وإكتشف أنه أمام بابا مختلف ،قال له أن السيد المسيح عاش على أرض تعرف العبرية ،وأنه كان يتحدث ببضع كلمات عبرية،ولعل نتنياهو حاول تثبيت أن هناك لغة في التاريخ إسمها العبرية ،وهذا هو قمة التزييف والتزوير والتضليل،وهذا يقودنا إلى مهزلة الهولوكوست التي تعد كذبة اليهود الكبرى ،حين فاجأوا العالم بأن النازي هتلر ذبح منهم 40 مليونا ،وعندما ضج العالم لضخامة هذا الرقم ،وأن عدد اليهود آنذاك لم يكن بهذا الحجم،وعد اليهود بمراجعة لكذبتهم وخرجوا برقم جديد 24 مليونا ،لكن العالم واصل ضجته ،فإنتهى يهود إلى الرقم الحالي وهو ستة ملايين ،وأصروا على عدم التراجع عنه ،وما يزالون يبتزون ألمانيا والعالم بفضل هذه الكذبة الكبرى.
تعرض قداسة البابا خلال زيارته للقدس لأبشع انواع الإستغلال والقسوة إذ عاقبه نتنياهو لصلاته أمام جدار الضم والسلب والنهب،بأن خدعه بقوله أن "الإرهاب الفلسطيني" قتل العديد من الإسرائيليين،وهو ما جعل إسرائيل تبني ذلك الجدار ،متمنيا على طريقة إبليس، أن يتوقف "الإرهاب الفلسطيني"لتقوم إسرائيل بهد الجدار.
كما فرض الإسرائيليون على قداسة البابا أن يزور ما يحلو لهم تسميته "ياد فاشيم"الذي يرمز إلى المحرقة المتخيلة يهوديا ،وهذه سابقة في الزيارت البابوية لإسرائيل ،إمعانا في إذلال قداسته ،وكافة العرب المسيحيين في المنطقة،علاوة على إجباره وضع إكليل من الزهور على قبر اليهودي الخزري مؤسس الحركة الصهيونية د.ثيودور هيرتزل.
وإمعانا في التوريط لقداسته ،أقر مجلس الوزراء الإسرائيلي بناء توسيع مستعمرة جبل أبو غنيم،ليقال أن هذا التوسيع تم خلال زيارة البابا للقدس وأنه حظي بمباركته.
لم تكن مدخلات ولا مخرجات زيارة قداسة البابا للأراضي المقدسة ،كما يشتهي يهود ،لذلك صبوا جام غضبهم عليه لصلاته أمام جدار الضم والسلب والنهب،وإدعوا أن الفلسطينيين حولوا تلك الزيارة الميمونة إلى بروبوغاندا إعلامية،وقد إستقبلوه بشعارات همجية كتبوها على جدران المساجد والكنائس مفادها :" الموت للمسيحيين "و"سنصلبكم"،كما إحتجوا عليه لإعلانه الصلاة في مكان العشاء الأخير للسيد المسيح،وإدعوا أنه مكان قبر داوود.