استقلال أي وطن هو قمة نجاح جهود أبنائه للوصول إلى حريتهم، ولكن وكما قيل: «ليس المهم ان تصل إلى القمة.. فالأهم هو ان تحافظ على بقائك عليها». ومثلما أنّ الفشل قد يصيب الناجح، ويطيح به عن القمة، فكذلك الاستقلال يمكن ان يُثلم ويُنتقص، دون ان يشعر أهله بهذا الثلم، وذلك النقص، بل قد يكونون سببًا في هذا الثلم، فكثيرة هي الشعوب التي خرجت جيوش المستعمر من أراضيها، لكن المستعمر ظل يتحكم بها وبمقدراتها، ولكن بكلف أقل عليه من كلف وجود جيوشه فوق أراضيها، وذلك من خلال قيام بعض أبناء تلك الشعوب بالوكالة عن المستعمر بمهمة استلاب إرادة شعوبهم وإخضاعها للمستعمر عندما يزين هذا البعض لأبناء شعبه محاسن المستعمر الثقافية، والاجتماعية،..الخ، ويسعى لتوطين قيم المستعمر وثقافته وتقاليده، بين أبناء الشعب الذي تحررت أراضيه من الاستعمار العسكري المباشر. فيفتك الاستعمار الثقافي بالبنية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لذلك الشعب فتكًا اشد من الفتك العسكري.. لأن الاستعمار الثقافي يسلب إرادة المقاومة، ويزين الاستسلام، ويضعف المناعة الحضارية للشعب، ويجعله يلهث وراء مستعمره ويسلمه قيادته، وهو ما عبر عنه قديمًا مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون: «بولع المغلوب بتقليد الغالب» وما عبر عنه المفكر الجزائري المعاصر مالك بن نبي: «بالقابلية للاستعمار».
كثيرة هي المثالب التي يمكن لأعداء الشعوب أن يصيبوا بها استقلال الشعوب، لعل في طليعتها الكثير من الاتفاقيات، والعهود والمواثيق الدولية، التي تفرض على هذه الشعوب قيمًا ومفاهيمًا لا تنسجم مع قيمها ومفاهيمها ولا تقاليدها، ولا موروثها الثقافي، وآفة الأمر أن هذه المواثيق والاتفاقيات والعهود صارت تعلو على القوانين الوطنية للشعوب، وهي بالتالي تمثل اعتداء على التشريعات الوطنية، وسلبًا لحق الشعوب وحريتها بالتشريع بما يتفق مع مصالحها الوطنية، ومع معتقداتها وقيمها الدينية، وموروثها الحضاري. من هنا فإننا نستطيع القول: إن الكثير من الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية صارت تشكل ثلمة في استقلال الكثير من شعوب الأرض.
ما أريد أن أقوله: إن مداخل المستعمر تتعدد لإبقاء سيطرته على الشعوب التي يضطر إلى إخراج جيوشه وموظفيه من أراضيها، غير ان الاستعمار الثقافي أهم هذه المداخل. لذلك ينفق المستعمرون أموالاً طائلة لنشر ثقافتهم وتمكينها في البلاد التي خرجت جيوشهم منها، وينشئون لذلك الروابط العالمية، مثل الرابطة الفرانكفونية، والرابطة الأنجلو سكسونية، ورابطة الكمنولث، وغيرها من الروابط مثلما يقيمون من أجل ترسيخ استعمارهم الثقافي الإذاعات والتلفزيونات يتصدر واجهات بعضها أبناء تلك الشعوب، في حين يملي رسالتها سدنة الاستعمار، وهنا تبرز خطورة التمويل الأجنبي الذي ينفق ليس على الإذاعات والتلفزيونات، والصحف، والمجلات التي ينشئها المستعمر أو تلك التي يتبناها.. فهناك مراكز الدراسات والبحوث، وهناك الجمعيات والروابط. فقد صارت المجتمعات المدنية في جلّ دول العالم الثالث مخترقة من خلال التمويل الأجنبي لإحكام الطوق على إرادة الشعوب وتكبيلها بخيوط حريرية لكنها أشد قسوة من بساطير العسكر.. من هنا يمكن القول: إن التمويل الأجنبي وأدواته خطرٌ كبيرٌ على استقلال الشعوب والدول والأوطان.
هذه المثالب وغيرها، علينا كأردنيين أن نستذكرها ونحن نحتفل هذه الأيام بعيد استقلالنا لنحمي هذا الاستقلال منها ونحصّنه ضدها، وأول ذلك: ان نتذكر بان الدولة الأردنية الحديثة قامت في الأصل كدولة رسالة، خلاصتها تحقيق وحدة الأمة، واستكمال استقلالها وبناء سيادتها، وهو هدف أشد ما صارت الأمة بحاجة إليه في هذه المرحلة العصيبة من تاريخها، حيث تشتد ضراوة هجمة التقسيم على الأمة، وضراوة هجمة سلب الاستقلال والسيادة، وضراوة هجمة الاستباحة الثقافية والحضارية، وهي هجمات تفرض علينا كأردنيين ان نفكر مليًا في آليات حماية وترسيخ استقلالنا الوطني، وإغلاق كل النوافذ والأبواب التي يدخل منها المستعمر دخولاً ناعمًا إلى الشعوب. وأن نفكر أكثر في آليات تحقيق رسالة الاستقلال، وهي الرسالة التي قامت الدولة الأردنية المعاصرة لتحقيقها.
(الرأي)