facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




عــمــان الـذاكـرة المشطورة


23-05-2014 07:28 PM

عمون - قاسم توفيق - في البدء يلزم أن اشير إلى أن عمان في وجداني ليست سوى فلسفة المكان والكائن، والذكريات التي لم تكن أبداً إلا مزيجاً جدلياً بينهما، عمان التي أعرف الشوارع والطرقات والأزقة هي عمان الناس التي عبرت فيها ومنها. لا أقدر أن أختزل عمراً كاملاً فيها وأسميه فرحاً أو أسميه شقاءً بأكثر مما كتبت أو ما قد أكتب.

لست مؤرخاً، ولا مهندساً معمارياً، أنا ابن لرحمين، رحم أمي وعمان. ولست واحداً ممن يقرأون المدينة كما هي، بل أقرأها مثلما هي في داخلي.

رحم أمي كان المكان الأكثر أمناً وسلاماً عليً، وهو الأغلى على روحي على الرغم من أني لم أعرفه إلا لتسعة شهور فقط.

وعمان وهي من احتوتني كل هذه السنين، لم تكن رحماً وحسب، بل كانت زنزانة أيضاً. كانت عالماً غرائبياً ممتلئاً بالتناقضات، الفرح والحزن، الجوع والأمتلاء، الأمن والخوف، وكذلك الحب والكره.

أنا إنسان يملك ذاكرة سيئة للغاية، فأنا لا أنسى شيئاً. أما ذاكرتي مع عمان فهي ذاكرة مشطورة. أتذكر دفئها، ولا أتذكر بردها. أتذكر شبعها، ولا أتذكر جوعها. أتذكر جارنا الجميل الطيب عيسى حدادين أبو الوليد. ضابط الجيش الذي كان يخبئنا في بيته من القصف والرصاص ولا أتذكر معارك أيلول سنة سبعين.

أتذكر العسكري الصغير الجميل الذي كان يدس لنا السيجارة من بين قضبان الزنزانة، والذي يأخذ منا رسائل لأهلنا لكي يطمئنوا علينا، ولا أتذكر صفعات وفلقات المخبرين.

أتذكر إبنة الجيران الأشهى من العسل وهي تغمز بعينها وبابتسامتها العذبة، ولا أتذكر جارنا «ثلجي» المرابي.

ألم أقل أن ذاكرتي بعمان مشطورة؟

أنا افهم بأن كل ما جمعني بهذه المدينة لا يعدو سوى الحب، لكن عمان عاشقة غريبة، فهي لا تعشق إلا على هواها، عشقها هو هذا العشق البائس الذي يدعى «الحب من طرف واحد».

يعشقها فقراؤها، والكادحون، والعاطلون عن العمل. وتعشق هي التجار والمرابين والسماسرة واللصوص.
تأخذ من تعب عمالها وعرقهم، وتعطي للتجار. تأخذ من وطنية أهلها المخلصين، وتعطي السماسرة.

قصة عشق عمان، قصة غريبة...
في الوقت الذي كان يخاف او يتردد الأدباء بالكتابة عنها وتسميتها باسمها، كنت أسميها بصوت عال، لم أكن قد عرفت مدينة في العالم كله غيرها فكيف لي ان أحكي عن القاهرة أو بغداد أو لندن التي لم أكن أعرفها وأُغيب مدينتي؟

عندما أكتب عن ولد صغير يبيع علب المحارم في شارع طلال؟ أو أكتب عن عاشقة شركسية جميلة في جبل التاج؟ أو أكتب على لسان بطل قصة «سلاماً يا عمان» عندما يأتيه عقد عمل في الخليج حين يقول: «لا أحب أن أترك المدينة التي تسبح في دمي منذ الطفولة، لا أحب أن ابتعد عن زقاق جبل النزهة الدافئة في قلبي، لا أريد حزن الاغتراب مرة أخرى على الرغم من أن رائحة البترول قوية.

-عمان ... آأأأأأأه. عمان تعب جميل».

هل يمكن أن أستعير مدينة اخرى غير عمان أسميها س أو أسميها بيروت لأقول أن تعبها جميل؟

حسمت أمري وكتبت هي أو الموت. قرار بطل قصة الخاتم الذي حسبه صاغة سوق الذهب لصاً واستدعوا له الشرطة عندما حاول أن يبيع خاتم أمه الذي أعطته إياه لكي يدفع رسوم المدرسة الحكومية حتى يتمكن من التقدم لأمتحان الثانوية العامة.

« فكر وهو يرى الليل يتربع فوق جبال عمان، والبرد يشتد كلما طغت العتمة أكثر فوق الأزقة المُتعبة. وأن عمان كبيرة، أبعد من حدود البصر، لكنها أقرب من وريد القلب، قرر أن:
-عمان أو الموت».

صارت عمان وناسها هما عالمي الكتابي مثلما هما عالمي المعاش، أيقظتُ ذاكرتي السيئة، ورسمتها بالكلمات. عمان الستينات، وعمان الأن. أستحضرت شخوصها وأبطالها وناسها وأماكنها، وحفرتها على الورق. كتبت عن العمال الذين كانوا يأتون من القرى والبلاد المجاورة للعمل فيها، ونومهم أمام المسجد الحسيني على قطعة كرتون يلتقطونها من سوق السكر، ونمت معهم هناك.

كتبت عن أمهاتنا، وعن كد أبائنا، وعن المعلمين، والتجار. استحضرت الأعياد فيها، والمظاهرات، وجئت بالبلطجي الذي كان يحكم سقف السيل، وبأبو الديب عامل مقهى الشهرزاد، وأديب الدسوقي بطل الأردن في الملاكمة.

اسمحوا لي أن أبرز (عماني) التي حدثتكم عنها، عمان التي جعلت الناس والأمهات والعشاق والثوريين لأماكنها عناوين، وسمت درج الأردن، ومقهى خبيني، وسينما زهران، والمدرج الروماني والمحطة وسقف السيل لأنه لولا الأنسان العماني لما كانت عمان.

عندما كتبت عن ممثل مسرحي وتلفزيوني جميل أسمه محمود مساعد، كتبت عن قناة التلفزيون الوحيدة التي كنا نشاهدها آنذاك، التلفزيون الأردني، وعن محاولات جادة لعمل مسرح متطور عندنا. «لمن لا يعرفون أبو سرور محمود مساعد الممثل الذي كنا نطلب توقيعه على أتوغراف أو قصاصة ورقية عندما نراه في شوارع عمان، والذي أُصيب بمرض ما وصار يهيم في شوارع عمان يحاكي نفسه، أو يعيد أدواره التي مثلها في مسلسلات التلفزيون أو على المسرح، هذا الفنان الذي مرض ولم يجد ثمن الدواء، وطُرد من بيته لأنه لم يكن يملك قيمة إيجار هذا البيت، هام في الشوارع يحكي مع نفسه حتى وجده أحد عمال النظافة ميتاً على رصيف أحد شوارع عمان. مات دون أن يجد كفناً يحتوي ما تبقى فيه من جسد.

أو من الممكن أن نتكلم عن «نابليون عمان» الذي يعرفه أكثركم، فقد عشت معه وسميته العاشق. بحثت فيه عن رؤيته لهذه المدينة، وسألته عنها، فحدثني عن ذات صيف فيها، قال لي:

أسمع يا صاحبي، يدخل الصيف عمان في الوقت المحدد له، يتمدد فوقها فيغطيها بكساء الكسل والتراخي والغبار، ويحتل نهارها كله بالدقيقة.

وكالعادة تتمنى الناس لو أن الشتاء يرجع.

قال لي:
-عمان في الصيف تصير أوسع، تتفتق عن ضيقها الخانق المتربع مغارة في جبل بعيد، أو مقبرة مهجورة. في الصيف تصير عمان ساحة الجامع الحسيني، والمدرج الروماني، وبلاط فندق فيلادلفيا، وأزقة سوق السكر والأرصفة الكثيرة. لقد نزلت عمان، درت كل شوارعها التي فقدتني كل الشتاء، سلمت على كل حجر فيها، وكل رجل أحتل بقعة يبيع فيها الكعك أو شراب السوس أو الملابس العتيقة، وعلى كل فتاة نضجت مع حب اللوز.

هذا مختصر ما قاله نابليون في قصة العاشق عن عمان.

أما في مقالتي الأسبوعية طوال عامي 2011 و2012 في جريدة العرب اليوم والتي كانت بعنوان «لسان الراوي». فقد حاولت أن أبعث الحياة في المكان، من درج الأردن، إلى طلعة الخيام، إلى مخيم الوحدات، حتى مطعم الشرق مثلما أراهم في داخلي، كائنات ومشاعر وأصوات.

من هناك من لسان الراوي عرجت على مصنع السجائر الوحيد في الأردن على طريق المحطة، فكتبت عن الخريم، صاحب المهنة التي قتلتها حضارة الكيمياء التحليلية، والتصحر. هذا العماني الذي كانت وظيفته فرز أصناف التبغ الواردة إلى عمان من فلاحي الشمال والضفة الغربية عندما يلف سيجارة من كوم التبغ، يشعلها ويمجها بعمق حتى تتخلل رئتيه ويتريث قليلاً متفكراً قبل أن يقرر: هذا الكوم فيلادلفيا، وهذا جولد ستار، هذا كمال، وهذا لولو... (هذه الأسماء أصناف السجائر الاردنية إلى وقت قريب).
هذا الرجل الخريم كان يسأل كلما قرأ إعلاناً عن مضار التدخين. متى سأمتنع عن التدخين؟
أما عن العشق في عمان فقد قلت:
«في عمان مع العشق يولد الخوف، تصير الأشياء العادية والممارسات اليومية وحتى عادات البدن من التنفس والنبض من المحرمات».
ولأني انسان يعشق المكان فأني لا أراه دون الأنسان.
لقد عُوتبتُ في يوم ما من الشاعر العراقي الكبير المرحوم عبد الوهاب البياتي عندما سألني باستغراب:
-لماذا أنت مولع بالكتابة عن عمان؟
أجيته ببراءة:
-عمان أمي وحبيبتي.
قال ساخراً:
-حبيبتك وأمك هذه التي تكتب عنها امرأة كريمة جداً، لكنها لا تعطي شيئاً.
ولم أفهم حتى اللحظة ماذا كان يقصد هذا الشاعر.
وبعد يا سيداتي ويا سادتي، فهذه هي عمان التي أعرفها.

عن الدستور





  • 1 ص .الزيودي 23-05-2014 | 08:46 PM

    عزيزي الأستاذ المبدع قاسم :
    عشاق عمان الصادقون - أمثالك - لايطلبون لقاء حبهم شيئا ، بعد أن أهدتهم عمان ، الأم الرؤوم أقلاما والوانا .. وغيمة صيف . الأوفياء أوفياء للممات ، والطيبون للأبد . ستعرف عمان -ذات يوم غير بعيد - أن ياسمينها وقمرها رسمه العشاق في مرايا الروح .
    سلمت لعمان يا سادن عشقها الكبير ، مذ كنت بعد فتى غض الإهاب ، ألهمته فراشة في حديقة الآداب .

  • 2 مروان بركات 24-05-2014 | 01:50 AM

    هنيئا لعمان، بما خطته يراع كاتبنا المبدع قاسم توفيق


تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :