أعلم تماماً أن الأجواء الصاخبة لا تصلح للإصغاء والاستماع الجيد، حيث ينعدم الإصغاء، وتقل دراجات الاستقبال الجيد للفكرة، وتقل فرص التداول السليم للطروحات، ويميل الحوار عند ذلك إلى تراشق التهم وتسجيل النقاط، وحب الاستعراض، بعيداً عن مربع الفهم والتفهم.
ومع ذلك فلا بد من توجيه الخطاب نحو الباحثين عن الحقيقة بأسلوب موضوعي وطريقة علمية، ومن أجل تسجيل موقف للتاريخ وليكون بين يدي الأجيال القادمة بأمانة.
القائمون على المبادرة الأردنية «زمزم» اختاروا بعناية مصطلح «مبادرة» بشكل مخطط ومدروس، وعن سبيل الإصرار، من أجل الابتعاد عن فكرة الأحزاب والتنظيمات وظلال الانشقاق والمناكفة، وأرادت من هذه المبادرة الشروع بتشكيل حالة وطنية قادرة على استقطاب الكفاءات الأردنية المخلصة التي تملك الاستعداد والحماس لخدمة بلدها بطريقة متخصصة قائمة على الفهم والعلم واتقان التخصص، دون نظر للميول الفكرية أو الدينية أو المذهبية أو الحزبية والسياسية، ويجمع بينها حب الوطن، ونظافة اليد وقوة الأداء، من اولئك الذين لم تستطع الأحزاب السياسية اجتذابهم ولمن تتمكن من استقطابهم.
بناء هذه الحالة الوطنية بهذه المواصفات يقتضي تبني خطاب متسامح، ينبذ الكراهية والتعصب، ويبتعد عن الأطر الإيدلوجية الضيقة، وفي الوقت نفسه لا يمكن إهمال الأطر الثقافية الواسعة، ومنظومة القيم النبيلة، مما يحتم الارتكاز على طرح الإسلام بوصفه إطاراً حضارياً واسعاً مرناً، يتسع لملء مكونات الأمة بلا استثناء، ويشكل مصدراً لهوية الأمة الجامعة، التي تجمع بين الإسلام والعروبة والوطنية دون تناقض أو تعصب، والبعد عن طرح الإسلام بطريقة حزبية ضيقة ولا بشكل فئوي طائفي متعصب.
كما يقتضي البحث عن مساحات التوافق مع الآخر، وتعظيم المشترك الوطني والثقافي والقيمي بين كل مكونات المجتمع، وهو مشترك كبير وواسع يصلح لتشكيل خطاب وحدوي متماسك، يؤدي إلى إنتاج مسالك للعمل المشترك متعددة وكثيرة تخدم الأمة والمجتمع وتقلل منسوب التوتر المفضي إلى الصراع الداخلي الذي يبدد طاقات الأمة ويهدر فرصتها في النهوض والتقدم، وينبغي الشروع بخلق أجواء جديدة تصلح لاستنبات ثقافة جديدة تقوم على إشعال التنافس بين البرامج العملية القادرة على تقديم حلول وبدائل، وطروحات ومبادرات ميدانية مشتقة من فكر الأمة وتراثها وثقافتها وهويتها الجامعة.
الحركة الإسلامية أكثر الأطراف استفادة من فكرة المبادرة، لأن اتساع مساحات التوافق، وتعظيم المشترك من مكونات المجتمع يحقق غايات الجماعة الكبرى، ويبعد عنها شبح الإقصاء والهجوم العدائي والتهميش المتعمد من قبل السلطات الحاكمة، ويحميها من الحصار والانعزال، ويجعلها تقفز فوق الحواجز التي يضر بها خصومها الأذكياء.
وينقلها من الإطار الدعوي والحزبي إلى إطار الدولة والمجتمع وفقاً لهذا الأفق الواسع الممتد.
نحن لا نرى أن الساحة الأردنية تحتاج إلى حزب جديد يضاف إلى الثلاثين حزباً، ولا نرى أن هناك أي فائدة في إضعاف الحركة الإسلامية التي بنت رصيدها في أعماق الضمائر بجهدنا وعرقنا جميعاً، ولا يستطيع أحد أن يزاود على أحد في البذل والعطاء، ولا يجوز لأحد أن يختصر الحركة وإطارها وفكرتها وتراثها بشخص مهما كان مركزه القيادي، لأن الجماعة أكبر من الأشخاص وأكبر من القيادات، والوطن أكبر من الأحزاب وأكبر من الجماعات مهما كبرت وامتدت.
القيادة لا تملك أن تفرض فكرها الشخصي على الأفراد حتى لو كانت منتخبة، ولا يريد أحد أن يفرض أفكاره عليها في المقابل، بل المطلوب أن تتاح الحرية الفكرية التي تقيم اعتباراً لكل ما هو جديد دون وأد أو محاربة أو تشويه أو طعن أو مصادرة فقط.
والمشكلة الأكثر وضوحاً عندما يتم الابتعاد عن السجال الفكري ومقابلة الفكرة بالفكرة ويتم الذهاب إلى الطعن والتشويه وإثارة الانطباعات الخاطئة والانشغال بالحرب الإعلامية.
(الدستور)