التفرغ الأكاديمي إجازة علمية تمنحها الجامعات لأعضاء هيئة التدريس لإجراء بحث علمي هادف، يرفع من إمكانية عضو هيئة التدريس ومقدرته العلمية ويطوّر من مهاراته وكفاءته البحثية، وكذلك يعلي من شأن الجامعات من حيث سمعتها الأكاديمية. ولا شكّ في أنّ ما تمتلكه من كفآءات ومواهب علمية بحثية يعدّ مظهر عراقة وإبداع وأصالة ومدعاة فخر واعتزاز. وتتبارى الجامعات فيما بينها لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الشخصيات العلمية والبحثية المرموقة، فالباحث الجادّ يعطي الجامعة ثقلاً علمياً ومعرفياً كبيراً، لما قد يحققه من براءات اختراع، أو كشف علمي، أو سبق معرفي تحتل به الجامعة التي تضم في كادرها هذا النوع من الباحثين مكانة سامية بين نظيراتها. أما حين يموت البحث العلمي فيها أو يضعف فإنّها لا تعدو أن تكون نسخة مكبرة من مدرسة متوسطة أو ثانوية! فالنشاط البحثي وما يحققه من إنجازات معرفية هو الذي يبعث فيها الروح والحياة، وهو ما تنعكس آثاره إيجاباً على المجتمع والأمة.
هذه الإجازة عنوانها يكشف عن مقصودها، فاسمها "إجازة تفرّغ علمي" وتعني بصريح العبارة تفريغ عضو هيئة التدريس من أيّ مهام إدارية أو تدريسية ليتفرغ لإجراء بحث علمي لمدة سنة كاملة مدفوعة الراتب بمعظم علاواته. وتشترط في البحث الذي تريده أن يكون بحثاً علمياً رفيع المستوى يؤدّي إلى تطور في المعرفة، وتشير الجامعات في تعليماتها إلى أن البحث ينبغي أن ينشر ويحفظ اسم الجامعة عند نشره، فتكتب عبارة أعدّ هذا البحث في إجازة التفرغ العلمي الممنوحة من (ويذكر اسم الجامعة التي منحته تلك الإجازة).
والملاحظ على هذه الإجازة أمران:
الأول: أن الجامعات تأذن والتعليمات تجيز للمتفرغ علمياً أن يقضي هذه الإجازة في أعمال أكاديمية كالتدريس في جامعات أخرى ... وبهذا يذهب المقصود وتزول الغاية من التفرّغ العلمي، وهو بذلك لم يعدّ تفرغاً علمياً. والمشكلة هنا أنّ العمل التدريسي أو الإداري للمتفرغ علمياً طغى على هذه الإجازة فأصبح هو الأساس، والعمل البحثي العلمي أمراً ثانويا، بدليل أن الغالبية العظمى من أعضاء هيئة التدريس تعتذر عن طلب هذه الإجازة إذا لم تسنح لأصحابها فرصة عمل في جامعة أخرى إلى حد يمكن القول فيه: إن لم يكن هناك عمل فلا رغبة لأحد في إجازة تفرغ علمي! ومن ثمّ ليس هناك بحث علمي! وقد يفكر بعضهم بادخار هذه الإجازة ليجمعها مع إجازة "تفرغ علمي" أخرى، ومعنى هذا أن يؤخر نشاطه البحثي مدة اثني عشر عاما ليقوم بعدها بإجراء بحثين اثنين لربما تكون ولادتهما عسيرة جداً ! نظراً لذلك الغياب الطويل عن البحث العلمي!
ومن اللافت للنظر أنّ مبدأ المقايضة أصبح عرفاً أكاديميا بين الجامعات والكليات، بل أساساً ومنهجاً متبعاً في تبادل الأعضاء "المتفرغين علميا"، وبصريح العبارة تقول كل جهة أكاديمية للأخرى: خذوا منا واحدا نأخذ منكم واحداً، اقبلوا اثنين نقبل اثنين... بقطع النظر عن حاجة هذه الجامعة أو تلك الكلية إلى هذا العضو المتفرّغ. وقد حصل أنّ عضو هيئة تدريس طلب قضاء إجازة تفرغ علمي في قسم ما في جامعة، وقد قبل على الرغم من عدم توافر نصاب تدريسي لأعضاء هيئة التدريس أنفسهم في ذلك القسم ! فكيف يجوز أن يُقبل هذا العضو ويحمّل الجامعة تبعات مالية، ولا نصاب تدريسيا له فيها !
الأمر الثاني: أن تعليمات الجامعات بدأت تتهاون وتتساهل في التعامل بجدية مع هذه البحوث العلمية المنجزة للأعضاء المتفرغين، فبعدما كانت تحذر من أن البحث إذا لم يقبل للنشر فستسترد الجامعة ما دفعته من رواتب لهذا العضو طيلة سنة كاملة! أصبحت التعليمات تقترب من القول: المهم أن يرسل بحث التفرغ للنشر قبل أو لم يقبل!!! وعلى الرغم من وجود بعض البحوث التي لم تقبل للنشر إلا أن حالة واحدة استردت فيها جامعة ما دفعته لعضو هيئة تدريس لم تتحقق ولم تقع !
وبدا يدافع الأعضاء المتفرغون عن أنفسهم بقولهم: بذلنا ما في وسعنا ولا نملك أن ينشر البحث أو أن يقبل للنشر! ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ... أيعقل أن تكون هذه الآية دليلاً على العبث العلمي الذي قاموا به وأنجزوه، أو دليلاً على العجز والكسل والإهمال! أيعقل أن يمكث باحث جادّ سنة كاملة في إجراء بحث ثم لا يقبل للنشر! أيعقل أن يحقق باحث براءة اختراع ولا يجد لها ناشراً! أيعقل أن ينجز باحث كشفا علمياً أو سبقاً معرفيا ولا يجد له ناشرا! كلا، إنّ السبب في ذلك أنّ هذ العضو المتفرغ لم يعط البحث الذي تفرغ من أجله سوى شهر واحد من طول تلك الإجازة! أكثر قليلاّ أو أقل قليلاً! ولم يكن جادّا في بحثه شغله التدريس والعمل الإضافي هنا وهناك ... بل إنّ من المفاجآت التي تقع أنّ متفرغا أنجز بحثا باللغة الإنجليزية وهو لا يعرف كوعها من بوعها! ومن المعلوم وجود مرتزقة على استعداد كامل لكتابة أي بحث ... أو رسالة .... مقابل مبالغ مالية!
وثمة أمر ثالث، وهو أنّ الجامعة المستضيفة لأولئك المتفرغين تحاول –كذلك- إشغالهم بأعمال إدارية تستنزف أوقاتهم البحثية، فتشغلهم بدوام كامل من الثامنة صباحا حتى الرابعة أو الخامسة مساء فأنى لهم القدرة على إيجاد وقت للبحث العلمي الجادّ! أو تحمّلهم أعباءً تدريسية إضافية – بناء على رغبتهم وإلحاحهم طبعاً- فلا تبقي لهم وقتا للبحث ولا تذر! وبذلك تهدم المقصد الذي تفرّغ عضو هيئة التدريس من أجله!
وإن كان لا بد ّ من اقتراح يضع الأمور في نصابها، وأنا على قناعة بأنه اقتراح سيغضب الغالبية العظمى من زملائي المحترمين، وهو إلغاء إجازة التفرغ العلمي التي تشكل استنزافا لميزانية الجامعات، والاستعاضة عنها بأمرين من ناحيتين اثنتين:
الأولى: من الناحية المادية التي تحققها لعضو هيئة التدريس يمكن لكل جامعة أن تتعامل مع من استوفى شروط التفرغ العلمي بأن تدفع له راتباً شهرياً إضافياً، أي: الراتب الثالث عشر، لكن لا يدفع إلا بناءً على منجزات بحثية مقبولة للنشر في كل عام. وبذلك تعمق الجامعات مفهوم البحث العلمي لأعضائها وتؤصله حتى يكون فيهم سجية وطبعاً! فتدفع ست رواتب إضافية خلال ست سنين، مقابل ستة بحوث منشورة أو مقبولة للنشر.
الثانية: من الناحية المعنوية الاستعاضة عنها بـالتوسع في منح "إجازة الإعارة" بين الجامعات توخياً للاستفادة من الخبرات التدريسية والبحثية لأعضاء هيئة التدريس ! وخروجاً من الرتابة التي يعيشها عضو هيئة التدريس في جامعته، وبعبارة أخرى: تغيير الأجواء الأكاديمية!