جميل أن يختار موقع "ذي هافغنتون بوست" المرموق لبنان على لائحة الأماكن التسعة التي ينبغي للمرء زيارتها قبل أن يموت، واضعاً إياه في المركز السادس، متقدماً لندن وغوادولوب وهاواي. لعل كاتب المقال ومنجز الدراسة أخطأا، في ما يتعلق ببلادنا تحديداً، في صوغ العنوان: حسبي أن هذه الأرض هي في عداد تلك التي ينبغي للمرء زيارتها "لكي يموت"، لا "قبل أن يموت".
لا تأخذوا كلامي هذا على محمل السخرية، ولا التشاؤم، ولا السوداوية. لكن، والحق يقال، مذ ولدتُ في هذا البلد، لثلاثة واربعين عاماً خلت، كل شيء في لبنان تقريباً إما دعوة الى الموت فيه، وإما الى الرحيل عنه: الحروب، المخاصمات، الكراهيات، الانقسامات، العنف، الضياع، والخوف الذي يرافق كل نسمة هواء وكل نبضة قلب.
لطالما كنت أسأل نفسي: لماذا أبقى هنا؟ فأجيب: من أجل العائلة، من أجل الاصدقاء، من أجل اللغة، من أجل المناخ، من أجل فكرة الوطن، من أجل المساهمة في التغيير، وسواها من الحجج والأعذار التي كنت أتمسك بها كمثل غريق يتمسك بقشة.
اليوم، بعدما سافر ابني البكر للدراسة في أوروبا، وسوف يلحق به قريباً ابني الثاني، ما عادت لديَّ القدرة على اختلاق حجج وأعذار، بل صرت أجد نفسي عاجزة عن مقاومة إغراء الرحيل. لم يعد السؤال الذي أطرحه على نفسي: لماذا أرحل؟ بل أصبح: لماذا أبقى؟
ألا أستحق، ألا نستحق جميعاً، نحن أبناء هذه الهويات القاتلة، وبناتها، فرصة لعيش حياة كريمة، بلا جزع، بلا تهديد، بلا توتر وبلا جرعة يومية من القلق؟ ألم أقم بخدمتي الإجبارية في معسكر المعاناة هذا، وتخرجتُ وصرت جديرة بمكان أكثر هدوءاً وأمناً وسلاماً؛ بمكان يحترمني ويحترم حقوقي وقدراتي وحاجاتي، بدلاً من هذا المكان المسعور، اليائس، الذي نتخبط فيه كحشرات في شبكة عنكبوت لن تلبث أن يلتهمنا عندما تحين ساعتنا؟
أعرف أن المشكلات موجودة في العالم أجمع، وليس ثمة بلادٌ مثالية، لكني أعرف أيضا أن المشكلات درجات، والجحيم درجات، والكفاح درجات: وأننا، هنا، أي في لبنان، قد انزلقنا الى الدرجة الدنيا أو ما يقاربها.
أما الآن، وقد بتُّ عاجزة عن مقاومة إغراء الرحيل، أجدني أبحث عن وطن يستحق الجزء الثاني من حياتي؛ عن وطن ليس العيش فيه مرادفاً لاجتناب الموت والعقم واليأس؛ عن وطن لا يهينني ولا يستخفّ بي ولا يهمّشني ولا يصفعني مرةً تلو الأخرى.
عن وطن يحييني، قبل أن أموت.
(النهار اللبنانية)