جرى خلال العقود الأربعة الماضية خلط بين ثقافتين، لكل واحدة منهما أدبياتها وتجلياتها في التعبير والإبداع، لهذا لا بد من فك الاشتباك بين هاتين الثقافتين.
ثقافة السلام تنطلق من الشعور بالندية وأحياناً من العفو عند المقدرة، فهي إذ تستلهم كتباً سماوية وفلسفات أرضية لا تحتاج إلى إفراط في التبرير بعكس ثقافة الهزيمة، التي يتم تجرعها على مضض، وبها من الاحتقان ما يحجب عدة حقائق في داخلها.
وكان ابن خلدون أول من كتب بشكل جدي ومنهجي عن ثقافة المهزومين، فهم إضافة إلى انكسار الإرادة والتأقلم مع الأمر الواقع يبهرهم العدو الذي ألحق بهم الهزيمة أو عدة هزائم متعاقبة فيأخذون في محاكاته وتقليد كل ما يصدر عنه، ولا يدركون بأنهم ينتحرون معنوياً لأن هويتهم بمرور الوقت تتلاشى وتذوب في هوية الغالب.
ثقافة السلام أنتجت نصوصاً أدبية خالدة كتبها رجال ونساء تذوقوا مرارات الحروب لكنهم لم يشعروا بالانكسار، وما تفرزه ثقافة السلام المتكافئ هو حالات نفسية سوية، فالعافية القومية لا تعاني من أي نزيف سري أو علني، أما ثقافة الهزيمة فافرازاتها سامة، وتصيب ضحاياها بسلسلة من الفوبيات التي تبطل بمرور الوقت فاعليتهم، إضافة إلى افقار الثقة بالنفس، وبالتالي ازدراؤها، فالمهزوم الذي تأقلم مع حالته يفقد صلاحيته كإنسان في المبادرة أو في أي تنافس لأن إدمانه الانكسار يخلق لديه شذوذاً أو التلذذ بالألم.
وإذا كانت ثقافة السلام تنتج النقد الذاتي وفلسفة الاستدراك، فإن ثقافة الهزيمة تنتج هجاء الذات وتقريعها والسخرية منها.
ونذكر للمثال فقط ما أعقب هزيمة حزيران عام 1967 من سخرية تصل حد الشماتة بالنفس، حتى النكتة السياسية التي شاعت في تلك الآونة كانت من النوع الذي يبكي ولا يضحك.
وقد يكون الإعلام العربي قد اضطر في فترة ما لخلق هذا الالتباس حفاظاً على ماء الوجه، لكن التكتيكي أحياناً يصبح استراتيجياً ونحن آخر من يعلم. والسلام ليس قناعاً للانكسار أو حيلة بلاغية لإخفاء الحقيقة، فأدبياته معروفة وما يسود فيه من الإحساس بالتكافؤ لا يترك جراحاً في الوجدان أو الهوية.
وحين تربى ثلاثة أجيال على هذا الخلط بين ثقافتين متناقضتين فإن الخلل سيكون بنيوياً وعميقاً ويطال كل خيوط النسيج الاجتماعي.
لم يفت الأوان على فك الاشتباك بين هاتين الثقافتين، لكن المبادرة تحتاج إلى شجاعة وتناغم مع النفس وليس إلى ما يسمى الرقص في العتمة أو على السلالم!
(الدستور)