مثيرة ولافتة، الدعوة «المفتوحة» التي وجهها وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل الى نظيره الايراني «للتفاوض وتسوية الخلافات وجعل المنطقة آمنة ومزدهرة», على ما قال حرفياً..
نحن اذاً أمام تطور «قد» يقلب الكثير من المعادلات والتحالفات, التي بدت حتى الدقيقة الاخيرة وقبل أن يُفجّر الفيصل «قنبلته» التي ترددت اصداؤها في عواصم اقليمية ودولية مؤثرة, وكأنها معادلات وتحالفات راسخة وغير قابلة للنقض أو التصدع, إلا اذا تحددت ملامح المحاور وظهر خاسر فيها وخرج منها رابح, يمكنه توظيف الاوراق التي توفر عليها, وبما يؤهله لكتابة جدول اعمال المنطقة..
دعوة الرياض وزير الخارجية ظريف, لزيارتها في الوقت الذي يراه مناسباً, تكسر بعض (وليس كل) الجليد الذي تراكم بينهما منذ أن أخذت الخلافات بين اكبر بلدين في الخليج, أبعاداً مختلفة تراوحت بين النفوذ والادوار, وتعدتها الى ما يمكن وصفه بالخنادق المذهبية والطائفية المتقابلة وراحت العاصمتان تبحثان عما يعزز من مواقفهما المتعارضة, والتي وصلت حدود العداء والتحريض, ولم يقصّر أحد في «ذم الآخر» والغمز من قناته, حتى حدث الانقلاب (الديمقراطي كما يجب وصفه) في ايران بفوز الشيخ حسن روحاني وصعوده الى سدة الرئاسة, جالباً معه جواد ظريف على رأس الدبلوماسية الايرانية, التي وجّهت بوصلتها مباشرة نحو الغرب, مترافقة مع «حملة ابتسامات» ناجحة, اسفرت في النهاية عن حدوث انعطافة ذات ابعاد جيواستراتيجية, نقصد هنا الاتفاق النووي «المؤقت» بين طهران ومجموعة 5 + 1 في شأن الملف النووي الايراني, على نحو اثار اهتمام صُنّاع القرار في الرياض, الذين رأوا في ذلك خطوة غير مسبوقة وكسراً - ربما يكون نهائياً - لحال العقوبات والحصار بل والعداء ايضاً, الذي فرضته واشنطن والاتحاد الاوروبي على ايران, ما حدا بالرياض الى اعادة قراءة الملفات الاقليمية ومراجعتها وما يمكن أن تتركه من ارتدادات على «ساحات» اقليمية اخرى, كانت موضع تجاذب ومواجهات بين البلدين، يمكن القول ان سوريا والعراق, دع عنك لبنان الذي هو تفاصيل ثانوية مقارنة بأهم عاصمتين عربيتين مشرقيتين وهما دمشق وبغداد, اضافة الى ما طرأ من تغييرات ميدانية وجوهرية على موازين القوى فيهما سواء في ما خصّ نجاح الجيش السوري في توجيه ضربات قاصمة للمسلحين في اكثر من منطقة استراتيجية ام في الاخبار المتواترة عن ثقة نوري المالكي باستمراره في موقعه لولاية ثالثة بعد تسريبات تقول ان ائتلاف دولة القانون اصاب نجاحا غير متوقع.
واذ بدت مفاجأة وزير الخارجية السعودية بمثابة تعبير واستخلاص سعودي مبكر, لما يمكن ان تتجه اليه الاحداث بعد انتهاء بعض الاستحقاقات الاقليمية سواء في مصر التي تربطها بالرياض علاقات متميزة ومرشحة لمزيد من التعاون والتنسيق, اذا ما وصل المشير السيسي الى الحكم, بعد ان دعمته السعودية في موقفه من حكم جماعة الاخوان واطاحة محمد مرسي وتقديم معونات مالية ونفطية عاجلة للحؤول دون انهيار الاقتصاد المصري ام في سوريا التي يقترب موعد استحقاقها الرئاسي في الثالث من حزيران القريب والاحتمالات «المؤكدة» لبقاء الرئيس الاسد لولاية ثالثة تمتد لسبع سنوات ناهيك عن «الفراغ» الذي ينتظر موقع رئاسة الجمهورية في 25 ايار الجاري اثر فشل مجلس النواب في توفير النصاب القانوني اللازم لتصويت النواب على رئيس جديد..، فإن المنطقة مرشحة للدخول في مرحلة جديدة يصح القول فيها ان ما بعد الثالث عشر من ايار (يوم وجه الفيصل دعوته) ليس ما قبله وان بمقدور الرياض وطهران ايجاد تفاهمات الحد الادنى، التي اذا ما تم التوقيع عليها, فإنها كفيلة باطفاء المزيد من الحرائق والحؤول دون اخرى وربما ينجحا في النهاية بالتجسير على خلافاتهما ازاء ملفات اخرى، نحسب انهما باتا الان اكثر جاهزية للبحث فيها وتقديم التنازلات (المتبادلة بالطبع) ازاءها، بعد ان وصلت الامور-أو كادت - الى نقطة اللارجعة, وظهرت مؤشرات الى انهما يرميان بثقلهما في الساحات والميادين, في لعبة كسر عظم بدت في مرحلة ما وكأنها بلا نهاية..
قد يكون من المبكر ابداء المزيد من التفاؤل والخروج باستنتاجات متسرعة, واعتبار ان المسائل المعقدة « والصراعية» التي سممت العلاقات بينهما, باتت خلف ظهريهما, إلا انه من السذاجة اعتبار دعوة الفيصل مجرد مناورة او لشراء الوقت, لأن أحداً في المنطقة وخصوصاً الرياض وطهران, لا يملكان المزيد من الوقت أو ترف إهداره, فالعالم يعيش مرحلة جديدة وساخنة بعد أن عادت - أو تكاد - مناخات الحرب الباردة, والمنطقة العربية التي عصفت بها رياح الربيع العربي, ما تزال تحت وطأة حال انعدام التوازن السائدة والفرز المذهبي والطائفي والعرقي, يكاد يمزّق ما تبقى من نسيج اجتماعي في اكثر من ساحة عربية, فضلاً عن التغييرات والتحولات التي طرأت على استراتيجيات الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة, التي تتطلع بشغف وسرعة نحو منطقة الباسيفيكي (المحيط الهادئ) وتنتظرها وفرة نفطية من تكنولوجيا الصخر الزيتي المتقدمة, والتي تؤهلها لتكون المصدّر الاول للنفط.. في العالم.
ردود فعل طهران على الدعوة السعودية, كانت ايجابية ومرحبة, ما يعني اننا على ابواب تطور اقليمي «مثير» سيفرض نفسه بهذه الدرجة أو تلك على المنطقة بأسرها.
.. فلننتظر!
(الرأي)