معان .. ليست خاصرة رخوة: محاولة لإدراك الواقع واستشراف الحل
11-05-2014 03:14 PM
المهندس سمير حباشنة*
-1
"Denying" حاله نفسية، تدفع بالإنسان المصاب بمرض عضال لأن ينكر مرضه. تدفعه تلك الحالة الى عدم مراجعة الطبيب، فيتعذر التشخيص وتنتفي إمكانية العلاج. وحتى إن تم التشخيص متأخرا، فإن العلاج يصبح ليس بذي فائدة، حيث يكون المرض قد استفحل ولم تعد هناك إمكانية للشفاء.
وإن ما ينطبق على الأشخاص، ينطبق على المجتمعات والدول أيضا. وقد شهدنا كعرب تجليات تلك الحالة النفسية، التي ابتليت بها أنظمة عربية عدة، وأنكرت حالة بؤس مجتمعاتها، ولم يتم التشخيص فتعذر العلاج، وانطوت صفحة تلك الأنظمة بلا رجعة.
-2
علميا، فإن التراكم الكمي يؤدي، بالضرورة، الى تغير نوعي. مثالنا الحي على ذلك، يتمثل في حالة الماء، والذي وإن تعرض الى التسخين، ووصلت درجة حرارته الى الغليان، عندها يتحول الماء الى بخار.
وما ينطبق على حالة الماء ينطبق على المجتمعات والدول أيضا، ذلك أن تجاهل الإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدولة، سوف يؤدي الى تراكمها الى أن تتفاقم فتتحول شكلا ومضمونا الى أزمة، ومن ثم الى انفجار. والفرق بين الماء والمجتمع أن نقطة الغليان بالنسبة للمجتمعات، نقطة غير مرئية، وغير معروفة وتختلف من مجتمع الى آخر.
إن خير مثال على ذلك حالة مصر الراهنة، فإن التراكم المزمن لإشكالياتها، وتركها دون حل، قاد الأمور نحو الانفجار والثورة.
-3
تلكم مقدمات عامة تنطبق على أوجه الحياة بمعانيها المادية والمعنوية كافة، بما فيها الدول والمجتمعات، فهل ينطبق الأمر على الحالة الأردنية ونموذجها البارز محافظة معان؟
أجيب بنعم.. ولكن.
أقول نعم.. لأننا مجتمع مثل كل المجتمعات، يتأثر سلوكها إيجابا وسلبا بالحال السياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد.
وأقول ولكن، لأن الحالة الأردنية اتسمت على مدار عمر الدولة بإنجازات كبرى، وعلى كل الصعد، لا ينكرها إلا ظالم. ولذلك فإننا ما نزال نمتلك فسحة من الزمن، لمعالجة ما لدينا من إشكالية مركبة اقتصادية واجتماعية - وسياسية. حيث يبدأ العلاج بالاعتراف بالإشكالية أولا، كما هي بلا رتوش ولا تجميل. وإن الاعتراف يقود بالضرورة الى التشخيص ومعرفة الدوافع والمسببات. وهنا يصبح العلاج أمرا ممكنا.
-4
فما هي إشكالية الدولة الأردنية، التي تطل برأسها، وتعبر عن مكنونها بين كل فترة وأخرى؟! ولماذا معان أكثر من غيرها؟؟
تتداخل وتتفاعل في إشكاليتنا الوطنية، عوامل عدة، ومحافظة معان هي الأبرز في التعبير عن هذه الإشكالية، ذلك أنها تعاني من وضع معيشي صعب، تنطق به الأرقام، فتلكم المنطقة من وطننا الغالي تحتوي على 22 % من جيوب الفقر، السبعة والعشرين، الموجودة في المملكة!، حيث تقدر نسبة الفقر في قصبة معان 21.5 %، وفي منطقة أذرح 26.5 %، وفي منطقة الجفر 33.8 %، وفي منطقة الديسي "من محافظة العقبة، إلا أنها ضمن النسيج الاجتماعي لمحافظة معان"، 47.5 %، وفي منطقة أيل 48.3 %، وفي لواء الحسينية 52.5 %، أي إن مواطنا من كل اثنين لا يتحصل على الغذاء الكافي أو المسكن المناسب! مع الإشارة الى أن
44 % من جيوب الفقر تقع في جنوب المملكة (جريدة الغد).
هذا الوضع السيئ يرتبط بجمود الحالة الاقتصادية في المحافظة، وفي النقص الفادح في أذرع التنمية، فلا مشاريع ولا فرص عمل جديدة، زد على ذلك آلاف الخريجين الذين ينضمون الى جموع العاطلين عن العمل، دون أن يلوح في الأفق بصيص أمل بالظفر بفرصة عمل.
أما على الصعيد السياسي والثقافي، فإن محافظة معان، مثل أغلب مناطق المملكة، تفتقر الى التواصل المنتظم والمطلوب بين المستويات المختلفه للمسؤولين وما بين المواطنين، وإن الزيارات الحكومية لا تعدو كونها ضربا احتفاليا محضا. حتى عندما تحدث حالة من التعبير والاحتجاج على الواقع الصعب، فإن المسؤولين يتجنبون التواصل مع المحتجين، للوقوف على مطالبهم أو التحرك نحو تحقيقها كلها، أو بعض منها، بل وعدم السعي لإفهام الناس الأسباب التي تحول دون تحقيق تلك المطالب!
مع التذكير بأن جلالة الملك لا يتوقف عن التأكيد على المسؤولين على أهمية التواصل مع المواطنين.
-5
في الصيف الماضي، كنت في عداد مجموعة من أعضاء الجمعية الأردنية للعلوم والثقافة، بزيارة لمحافظة معان، وكانت هناك خيمة حراك مطلبي في الحسينية. ما يلفت النظر، وبالرغم من أنه قد مر على نصب تلك الخيمة ما يزيد على أربعة أشهر، فإن أي مسؤول لم يكلف خاطره بزيارة الحسينية، والوقوف على طبيعة مطالبها!. بل وكنا عقدنا جلسة حوارية في مجمع نقابات معان، بحضور قادة سياسيين وعشائريين ونقابيين ورجال أعمال، لمدة ثلاث ساعات، أكد المجتمعون لنا بأن التواصل مع الحكومة شبه مقطوع! مع ملاحظة أن جملة المطالب، التي استمعنا إليها في الحسينية، أو في معان، ليست بالمطالب التعجيزية، وإن تحقيقها لأمر ممكن، ولو على مدى زمني طويل.
إن غياب التواصل مع المواطنين، وعدم شرح توجهات الدولة وإمكاناتها ومواقفها السياسية، تجاه ما يجري بالإقليم، وعدم وجود مؤسسات مجتمع مدني فاعلة ومؤثرة، سوف يدفع الشباب، بالضرورة، لأن يكونوا عرضة للتأثر بالفكر المتطرف السائد في الإقليم. فالشاب العاطل عن العمل، والذي لا تعيره حكومته الاهتمام الكافي، عرضة لأن يتأثر بذلك الفكر، وهذا ما يفسر التحاق مئات الشباب الأردني بالمجموعات المسلحة في سورية. وإننا بقدر خشيتنا على حياتهم، فإننا نخشى من عودتهم الى الأردن، فحين يعودون فانهم لا يحملون فكرة التطرف فحسب، بل فكرة التطرف وإمكانات تطبيقها على الأرض. ولنا في الجزائر المثال الأكبر، فالذي أشعل الحرب الداخلية التي امتدت لعشر سنوات، هم الشباب العائدون من أفغانستان. ونسمع يوميا بأن دولا غربية، تعد العدة تحرزا من مواطنيها، الذين التحقوا بالحرب السورية، لمواجهة الأخطار الأمنية المترتبة على عودتهم الى تلك البلدان.
إذن، فإشكالية محافظة معان، وهي إشكالية على مستوى الوطن، بمستويات متباينة من منطقة الى أخرى، إشكالية يمكن حلها. فعلينا أن نتصدى للحال المعيشي الصعب، فنرتقي بمستوى الحياة، ونولد فرص العمل، عبر مشاريع موجودة على الورق، لكنها تنتظر التنفيذ، وعبر التواصل الفكري والثقافي والسياسي مع المواطنين، وبالذات مع الشباب، حتى لا يكونوا نهبا لأفكار التطرف والعنف.
إن علينا أن نؤسس وندعم مؤسسات مجتمع مدني نشطة، قادرة على استيعاب الشباب، وتسليحهم بخطاب الدولة الأردنية، وتوجهاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على اختلافها. علينا كذلك أن نقوم بتوظيف كافة منابر التوعية والتثقيف من إعلام، وجامعات ومدارس ومنابر دينية، أو بقوة القانون، لمنع شبابنا من الالتحاق بحروب الإقليم البغيضة.
-6
ومن تجربة شخصية، يشهد عليها أهالي معان الطيبون وقادتها، فإن الحوارات المستمرة، إبان وجودي كوزير للداخلية مع القوى النشطة في مدينة معان، السياسية والاجتماعية، قد أعطت أكلها، حيث قام المطلوبون لدى القضاء، بتسليم أنفسهم للحكومة، دونما ضغط ولا ملاحقة.
كذلك، فإن انتقاء القادة المحليين في المحافظات، لا بد أن يخضع لمعايير خاصة، بإرسال شخصيات ذات معرفة وخبرة متعددة الأوجه، سياسية وعشائرية واجتماعية. وإن من المناسب التذكير بأن الفترة، التي تم فيها تعيين اللواء حاكم الخريشا محافظا في معان، واللواء محمد العطين مديرا للشرطة، كانت من أهدأ الفترات التي مرت بها المحافظة.
وبعد.. فإن المواطنين في محافظة معان، مواطنون أردنيون أصحاب شيم راقية، منتمون ومحترمون. ولنتذكر أن أول استجابة أردنية للثورة العربية الكبرى، انطلقت من محافظة معان، فكانت معان أول الرصاص.
مع التأكيد بأن على الدولة الأردنية أن تميز ما بين الصالح والطالح، وما بين من له قضية سياسية أو مطلبية، وبين مجرم مطلوب، فالتسامح والحوار مطلوب في الحالة الأولى، وإنفاذ القانون مطلوب في الحالة الثانية، وعلينا أن لا نخلط بين التسامح والضعف، وأن لا نعالج موضوع معان معالجة أمنية بحتة، وأن لا نكتفي بالمسكنات، التي قد تخفي الأعراض، ولكنها بالتأكيد لن تعالج المرض.
*وزير الداخلية الأسبق
الغد