كان بالإمكان ألا اصدفها يوم امس لو كنا تأخرنا او ابكرنا الخروج من المنزل انا وأختي رابعة... كان بالإمكان ان اسلك الطريق المعتادة لي عندما يخطر ببالنا ان نمضي بعضا من ساعات يوم الجمعة في وسط البلد، بين الوجوه والقصص والألوان والأغنيات وايضاً آلاف الأحلام المنسية..!
ولكني كنت محظوظة التواجد في المكان الصحيح في اللحظة المناسبة لألمحها بعد ان تعديتها بمسافة قليلة.. تحمل عكازها الذي بقي السند الوحيد لها بعد ان غدرت بها الحياة.. تجر خطاها ببطء ولكن بثبات وإصرار..!
كانت الساعة قاربت الثانية عشر ظهرا من يوم الجمعة.. الشوارع شبه خالية كالعادة، الا من حركة المتوجهين لأداء الصلاة..
ووحدها هي تمشي على جنب الطريق، تحمل همومها وغصة في قلبها..!
أوقفت السيارة، ولأنه كان من الصعب العودة الى الوراء، قفزت أختي من السيارة لتلحق بها ونقدم لها (اللي فيه النصيب).. لم أكن قد لمحت وجهها عندها ولكني من بعيد لمحتها وهي تدعو رافعة يدها للسماء وتابعت خطاها الثقيلة.. عادت رابعة وغصة تعتصرها وقالت لي (مسكينة بتقطع القلب)،، قلت لها ألم تسأليها الى اين هي ذاهبة..! قالت انها أخبرتها انها اقتربت من المكان..!
عندها قررنا أن نتخلى عن فكرة مشوارنا إلى وسط البلد قليلاً، وان نساعد في ان نكمل مشوار (أم محمد).
اقتربت منها ورأيت في ابتسامتها المسروقة من قهر الحياة لوحة فنية تلونت بكل ألوان الطيف.. وجه كئيب لا يزال رونق الشباب يتألق في قسماته التي غطاها حزن وقلق وانكسار..
رفعت إليّ عينيها اللتين اتعبهما الحزن والسهر و القلق المبهم لتقول انها في طريقها الى مطعم لبيع السمك تأتي اليه بين الفينة والأخرى وتجلس على قارعة الطريق بجانبه عدة ساعات وقت الغذاء لتعود ادراجها بعدها الى غرفتها الكئيبة وفي جعبتها بعض مما قد يجود به اصحاب الخير الذين يرتادون المطعم.
كانت فرحة وهي تخبرني انهم يقدمون لها الشاي ووجبة سمك التي تنتظرها بفارغ الصبر كل شهر.!
اختلطت ساعتها كل غصات العمر والقهر في قلبي،،وخاصة عندما علمت ان تلك الوجبة تكلفها عناء ومشقة الترحال في المواصلات العامة ومن ثم المشي على الأقدام مسافات ماراثونية بالنسبة لامرأة مثلها من الواضح انها على مشارف السبعينات في اقل تقدير..!
رسمت الحياة خطوطاً على وجهها، بحلوها ومرها ليحكي كل خط،حكاية رائعة عن سبب ظهوره على ملامحها... تمتلك ابتسامة تزيدها حكمةً وصلابة..
عندما قلت لها ساوصلك بالسيارة الى مطعمك، قالت وبكل عفة نفس : لا يا بنتي المكان قريب!
القريب بالنسبة الى حركتها كان بالتأكيد يحتاج الى أكثر من نصف ساعة أخرى من المشي والإجهاد بالرغم من أنه يبعد أقل من خمسين متراً..!
كانت عملية رفعها الى سيارتي العالية صعبة جداً علينا، تمنيت لحظتها لو ان لدي سيارة صغيرة كي لا أزيد عناءا على عناءها.. تعاونا انا وأختي في وضعها على المقعد الخلفي وطلبت ان التقط لها بعض الصور والتي عندما تمعنت فيها لاحقا كانت قسمات وجهها تحمل موسوعة من الحكايا الدفينة والمعاناة التي يجب ألا تعيشها مسنة مثلها في وطني..!
باختصار.. ام محمد هي من بدو الشمال، توفي زوجها تاركا لها ثلاثة اولاد الأكبر متزوج من اربع نساء استبدلها بهن وتركها وحيدة على قارعة ما تبقى لها من حياة.. والابن الأوسط توفاه الله، اما الأصغر فقالت انه مسجون، دون الدخول بالتفاصيل.
لديها أيضاً ابنتان من زواج سابق ولكن قسوة الحياة والازواج كما قالت جعل بناتها يتخلين عن مساعدتها ويتركنها خوفا على بيوتهن،، حتى عندما سالناها ولكنك من عائلة بدوية معروفة، كيف يتركونك أقاربك بهذه الحال، ردت علي بمثل بدوي، للأسف لم أكن قد سمعته من قبل ولم احفظه، ولكنه يتحدث عن عدم الرأفة والغدر.
الم يعلم أولادها ان الله لم يذكر أي عمل صالح مع التوحيد إلا بر الوالدين وانه ذكر مع الشرك عقوق الوالدين.
الم يقرؤا قوله تعالى " ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين»..!
مهما كانت ظروف حياتهم صعبة،، فقد خالفوا امر الله.
كنا قد وصلنا وقتها الى مطعم المحار للأسماك في شارع الجاردنز.. وما ان شاهدها العمال هناك حتى علت أصواتهم بالترحيب بها وكأنها واحدة من الشخصيات الزبائن المعروفة التي تأتي للمطعم..
قلت لها والله انك مشهورة يا ام محمد..ابتسمت بكل خجل الدنيا حتى اختفت عينيها الصغيرتين المملوئتين بالحزن والتعب..!
حتى تلك الشعرات التي غطاها الشيب فوق جفونها كانت خجولة..
كانت ملامحها مغطاة بحزن دفين لم تفلح حتى طرحة رأسها الملونة باخفائه..!
نزلت من السيارة بمساعدة احد الشباب وهي تحمل كيسا أسودا لم أكن قد لمحته من قبل، وبعد ان تبادلت السلام بسرعة مع بعض العاملين هناك مشت بعيدا عن المطعم الى زاوية الطريق مقابله قرب الحاوية وبدأت تفرش الارض بقطع الكرتون..!
صدمت وقتها لأني اعتقدت انها تأتي للمطعم وتجلس معززة على كرسي صغير بجانبه، ولكن للأسف عندما مشيت اليها لاسألها قالت لي انها تجلس في العادة في هذا المكان على الارض اليابسة لساعات لتستمتع بالشمس ريثما تتمكن من جمع ما يسد رمقها ويدفع إيجار غرفتها الشهري البالغ ٤٥ ديناراً اضافة الى جرة الغاز التي تنهدت وهي تقول لي انها أصبحت بعشرة دنانير.
هي ليست اًبدا بالمتسولة.. بل لديها من عزة النفس ما يشعرك بالفخر.. هي فقط امرأة ظلمتها الحياة وغدر بها الأبناء والبنات.. تركت منسية على قارعة الحياة تبحث عن بقية حلم لم يتسنى لها ان تحلمه..
اعلم ان هناك العديد من ( ام محمد).. وجوه شاحبة سلبها خريف العمر وجحود الأقربين ملامح الجمال وبريق الحياة فأصبحت ذابلة مقطبة تملؤها تجاعيد الحزن والحسرة.. تركها الأهل هياكل بشرية خاوية في عالم العزلة ليغتالها اليأس والأحباط.
تجاعيد وجه ام محمد تختزل معاناة جيل بأكمله.. تروي قصصا تحكي قسوة الانسان وظلمة لأقرب الناس اليه.
أدركت وقتها أن الجراح وحدها بالنسبة لام محمد لها ذاكرة قوية في حين ان الفرح عندها لا ذاكرة له..
وقتها قلت لها اذا حصلت الان على ما جئت من اجله كل تلك المسافات، ماذا تفعلين!
ابتسمت بفرح حتى لمحت ولأول مرة ما تبقى من أسنانها وقالت، يكفيها الله أعود الى منزلي.
كم هي قاسية الحياة حتى تترك عجوز مثل ام محمد تصارع امواجها وحيدة كي لا تقهرها..!
كم هو مؤلم ان ترى الزرع الذي سهرت عليه واهديته صحتك ونومك وحتى فرحك.. يكون هو السكين الذي يغرس في قلبك..!
قلت لها، إذن خلص، مشوارك اليوم انتهى الى هنا، بالمناسبة هي تأتي مرة او مرتين فقط في الشهر حسب الحاجة، ساعدتها على النهوض وكانت اكثر رشاقة هذه المرة من اي رياضية شابة، كلمات بسيطة اعادتها شابة، تماماً ام محمد كاحلامها لا تكلف الحياة شيئا، فقط هي بحاجة الى كلمة وأمل بان اليوم القادم بالتأكيد سيكون أفضل..!
طلبنا انا وأختي منها الانتظار على درجات قرب المطعم ريثما أحضرنا لها احتياجات المنزل وخاصة ( الدجاج ) والذي طلبته على استحياء !!
كل تجاعيد الحزن في وجهها تحولت لحظتها الى سيمفونية عشق للحياة..
كل الألم الذي أختزنه قلبها لم يكن إلا هبة وجع لاذعة لأشواق دفينة و حسرات ترقد في أعماقها منذ زمن بعيد.
كل ذلك الألم كان دوائه كلمة ويد حانية مهما كانت..!
طلبت ان أوصلها الى بيتها، غرفة أسرارها وصديقة وحدتها، ولكني لم أكن اعلم المنطقة التي قالت اسمها ولذلك
أوقفنا تكسي وطلبنا منه ان يوصلها الى المكان الذي تريده لنفاجئ بأنها من سكان الزرقاء.. قلت لها وكيف أتيت من الزرقاء الى عمان، قالت بكل فرح المنتصر المواصلات العامة والتي أصرت ان تعود بها لانها لا تريد ان تلكلفنا المزيد على حد قولها أجرة تكسي الى منطقتها التي قالت لصاحب التاكسي والله لن تعرفها صعبة..!
طبعا كان من المستحيل ان اخرب عليها فرحتها بيومها، بل ستصل الى باب بيتها مع أكياسها لتستلقي فوق فرشتها وتغمض عينيها وتحلم هذه المرة وهي مبتسمة..!
لفته طيبة من الشاب سائق التكسي ان تنازل عن جزء من أجرته لوجه الله..
بالمناسبة مرة ثانية عندما حاولت ان اساعدها على النهوض، رفضت وقالت لي لا انا انهض لوحدي، وبالفعل ازدادت رشاقة جديدة وهي تلملم أكياسها وتصعد قرب السائق ملوحة لنا بيدها وفرح العالم الذي ظلمها يتراقص على تقاسيم وجهها.!
ام محمد هي أمي وأمكم و كذلك الأخريات من أمثالها، يبدو أنهن كن يجهلن سبب تعاستهن. أساء القدر كثيرا ً لهن دون إنصاف فأصبحن جزء من الاف البشر الذي يعيش الحرمان و غصاته...
من غير الكرامة ان تعيش في أردننا، الذي يستقبل بكل طيبة كل من قست عليهم ظروف الحياة من كل العالم، ان تعيش مثل ام محمد بقية عمرها تحمل همومها عل ظهرها وحدها تجوب الطرقات تبحث عن حلم مفقود..أوقفوا سياراتكم بين الحين والآخر واعيدوا الفرحة لوجوه لا تعرفونها والتي صدقوني لا تكلف شيئا، أعيدوا الأمل الى قلب محروم او جائع ولو حتى بكلمة طيبة..!
لحظات صمت ممزوجة بالفرح والحزن معا عشناها انا ورابعه ونحن نكمل مشوارنا الى وسط البلد.. وجال خاطري و أنا اقود السيرة واشاهد أوراق شجر صفراء قذفتها رياح يوم امس غير المتوقعة تحت عجلات السيارة، لماذا تسقط هذه الأوراق عادة في الخريف، هل أنقضى عمرها فيه كما يقال..!
ولكن لماذا تسقط في الخريف دون غيره..!
لتصدمني فكرة ان الإنسان الفقير يعيش كل عمره خريفا و تتساقط أوراقه بلا توقف إلى أن يستحيل إلى شجرة بأغصان عارية، تتساقط أحلامه في الحياة الواحد تلو الاخر، في حين يعيش الكثير منا رفاهية الى حد الملل..!
الم اقل لكم الحياة ليست عادلة..!
للأسف، ليس لدينا اي وسيلة اتصال بأم محمد ثانية سوى الانتظار ان تجمعنا الصدفة والقدر مرة اخرى بها في رحلتها القادمة الى تناول وجبة السمك..!