منذ عقود والحكومات تتحدث عن التنمية المستدامة، وإحداث نقلة إيجابية في حياة الفرد.
النتيجة مخيبة للآمال؛ فلا التنمية تحققت، ولا الناس استشعروا، حتماً، فرقاً في حياتهم. بل ما يحدث فعلا هو شعور المواطنين بأن أوضاعهم في تردٍّ يتعمق مع مرور الوقت!
الحكومة الحالية لا تختلف عن سابقاتها بقطعها ذات العهود، وتأكيدها أنها أهل للبدء بمشروع التنمية المستدامة، وهي في طور وضع خطة عشرية للاقتصاد تحلم بعدها بتحقيق غاية انتظرها الأردنيون كثيراً.
لكن السؤال المهم: هل تملك حكومة د. عبدالله النسور وصفة النجاح؟
الإجابة الشافية تكمن في وصفة الفشل التي جعلت الحكومات المتعاقبة تجني ذات النتيجة، فنعود مجددا، في كل مرة، إلى المربع الأول؛ تماماً كمن يحرث البحر!
التنمية عملية طويلة ومضنية، وتحقيقها ليس بالأمر الهين. وفي الأردن، بدأت المساعي لإحداثها منذ زمن، لكن الحكومات، للأسف، لم توفر البيئة الحاضنة لها، وأهمها توفير معايير المحاسبة والشفافية والحاكمية التي تصون المال العام، وتضمن توزيع المكتسبات بعدالة.
إذ لم تدرك الحكومات، كما المؤسسات الأخرى، أن التنمية لا يمكن أن تنضج وتنمو في غياب المؤسسات الديمقراطية المسؤولة عن تطبيق معايير الحاكمية. ولذا، وبوعي أو من غيره، ظنّت أن لا علاقة بين الديمقراطية والتنمية، رغم أن الرباط بينهما وثيق.
فغياب أدوات المسألة، غيّب الرقابة والمحاسبة وتقييم الأثر، فكان أن ضاعت من ثم مليارات الدنانير من دون تحقيق طموحات الناس وأحلامهم التي تزيد على عمر بأكمله.
وظلت العقلية التي تحكم علاقة الحكومات بالفرد أبوية؛ تنمّي الدولة الرعوية القائمة على علاقة نفعية بين الطرفين. إذ أغدقت الحكومات في توزيع الهبات والعطايا، بدل أن تزرع ثقافة الإنتاج، مع تغييب المؤسسات الديمقراطية الحقيقية، عبر قانون الانتخاب القائم الذي يُخرج مجالس نواب غير ممثلة تفتقد الشرعية.
بالمحصلة، أدى غياب أدوات الحكم الديمقراطي إلى غياب فادح للتشريعات التي تحمي المال العام، وتُحكِم الرقابة على السلطات الأخرى؛ ما أضاع الهدف العام المتمثل في إمكانية إحداث الفرق المطلوب، وليصير عمل المؤسسات الرقابية نمطيا وبالقطعة، تبعا لأهواء ومصالح هذه الجهة أو تلك.
ليس الفرد وحده هو المصاب بـ"الشيزوفرينا"، بل الحكومات كذلك؛ إذ تجدها تدعو للتخلص من سياسات الدعم النقدي التي تشوه الموازنة العامة، اعترافا منها للمؤسسات الدولية بأنها حكومات إصلاحية، فيما الباب الآخر مشرع لتضخيم القطاع العام ورفده بقوى بشرية غير منتجة، والغاية هي إسكات أصوات المجتمع التي تنزع إلى المطالبة بالحرية والعدالة والحياة الكريمة.
في ظل هذه السياسة، ألغت الحكومات عاملا مهما لإحداث التنمية، هو الإنتاجية. فماهية الاقتصاد وقطاعاته لم تتغير كثيراً، وما كانت السياسات الحكومية المطبقة تسعى أبداً إلى تغييرها. إذ تجد أن السياسات الضريبية القائمة على عقلية الجباية هي المسيطرة، فيما التشريعات المؤهلة لتغيير هيكل الاقتصاد مركونة على الرف.
أما السبب الأخير لفشل التنمية، فهو نتيجة طبيعية للعوامل السابقة مجتمعة، ويتمثل في ضعف جذب الاستثمار كحل شامل جذري للعديد من المشاكل الاقتصادية، المالية منها والنقدية؛ ناهيك عن دوره في تقليل معدلات الفقر والبطالة.
البحث عن خطة عشرية اقتصادية متكاملة وناجحة، لا يمكن، بعد كل تجارب الماضي، أن ينفصل عن الإصلاح السياسي الحقيقي. وطالما ضعف إيمان الفرد بدوره السياسي ولم ينلْ حقه في المشاركة، فإن الفشل التنموي سيبقى هو النتيجة. وهكذا لن يتحقق تغيير، اللهم إلا الشكلي منه. مع الأخذ بالاعتبار أنّ كلف الفشل مختلفة هذه المرة؛ فمجددا سيزيد من احتقانات الناس، وسيوسع الفجوة بينهم وبين الحكومات، مع ما لذلك من تبعات كثيرة.
ربما آن الأوان لتناول الدواء الحقيقي من دون مواربة، حتى لا يكون الفشل رفيق التنمية من جديد.
(الغد)