تلك مفاضلة أقرب الى المراذلة، سواء نسبت الى ابن المقفع أو الى سواه وهي بين خامل الذكر وصاحب الذكر الذميم، وما كنت لاتذكرها لولا المفارقة شبه اليومية في حياتنا وواقعنا الاجتماعي بالتحديد، فثمة متعلمون وأحياناً أشباه مثقفين تمتلىء قلوبهم بالشر، ويوظفون ذكاءهم أو ما تيسر منه للايقاع بالابرياء وقد يؤجرون ذكاءهم لمن يدفع، فبأي معيار يكون هؤلاء افضل من الجاهل البريء، والذي قد يكون سليم الفطرة ونقي السريرة بفضل التربية والموروث الاخلاقي.
إن أمهاتنا لسن مثقفات وقد يكن غير متعلمات على الاطلاق، لكنهن يستحققن منا الانحناء والعرفان وقد نتعلم مما يتقطر من خبراتهن ما لم نتعلمه من الفلسفة، وقد سمعت عبارة ذات يوم في طفولتي من أمي لم تنسني اياها آلاف الكتب وأعود اليها كلما أزفت مناسبة تستدعيها قالت.. حذار من النذل، أعطه كل ما يطلب منك لأنه بلا روادع، وفهمت بعد ذلك سرّ الأغنية الشعبية التي تقول ضرب الخناجر ولا حكم النذل فينا!
إن مجرد المعرفة بمعزل عن البوصلة الأخلاقية لا معنى لها، فالمركيز دوساد فيلسوف لكنه شاذ وعدواني يتلذذ بضحاياه لهذا نسبت السادية الى اسمه، فهل لو كان خامل الذكر أشرف له من أن يكون صاحب كل هذا الذكر الذميم!
ان للثقافة خياناتها، فبعض الجواسيس من المثقفين، وكذلك الخونة لأوطانهم، لان بوصلتهم معطوبة، ويسهل شراء ذكائهم تماماً كما يسهل شراء أو استئجار ألسنتهم واقلامهم!
ان ما اسقط نظرية الفن للفن هو مجانيتها لانها منزوعة الهدف والرسالة، ويصح هذا ايضاً على نظرية العلم للعلم فقط، لان العلم يمكن توظيفه لابتكار أدوات تعذيب وكتابة تقارير مزورة عن الضحايا كما أنه يوظف لابتكار سموم عضوية يصعب التعرف عليها في جسد الضحية.
وربما لهذا السبب اعتذر الفرد نوبل عن اكتشافه للبارود، بجائزة سلام تمنح لعلماء وناشطين من أجل الانسانية، فان يكون المرء متعلماً أو حتى مثقفاً فان ذلك مبتدأ الجملة.
أما خبرها الذي يحولها الى جملة مفيدة فهو ما الذي صنعه بعلمه وثقافته؟ هل أبدع وأضاف ودافع عن العدالة والحرية أم وضع معرفته في خدمة مافيا أو منظمة ارهابية؟
بعد الآن علينا أن لا نُخدع بصفة المتعلم أو حتى العالم، الى ان نعرف كيف وأين وظف علمه؟ فالجاهل أسلم من عارف تخصص في شهادة الزور لأن الاول يرجى شفاؤه من جهله اذا توفرت الظروف، لكن الثاني لا رجاء في شفائه لانه فعل ما فعل بسبق الاصرار والترصد!
(الدستور)