في بداية عام 1991 أوقفتني المخابرات المصرية في مطار القاهرة ، كنت حينها كاتبا يافعا ، اقتادني ضابط أمن دولة عرفني باسمه « مقدم محسن « لا أزال أذكره ، رغم الزهايمر الذي ضرب تاريخ حياتي ، كان على قدر عال من الأدب وحسن التصرف ، أجلسني على مقعد بجواره ، كان المقدم محسن يحمل بيده صحيفة الدستور الأردنية ، فسألني سؤال مباشر بعد أن أسند الصحيفة بين ذراعيه ، وقال: « قصده إيه الوزير بالكلام ده»؟ ، كان أحد أبرز العناوين الرئيسة للصحيفة يومها هو المحفوظ التالي: وزير العمل.. إجراءات جديدة لضبط العمال الوافدة ودراسة سوق العمل.
قلت له: أنا ليس لي علاقة بالوظيفة الرسمية ولست ناطقا بإسم الوزير المحامي.عبدالكريم الدغمي حينها، ولكن هناك إجراءات تتخذ دائما لتحسين أوضاع سوق العمل وتحديد احتياجاته حسب فهمي ، فرد علي بسؤال استنكاري: «هو فيه غير المصريين عمال عندكم يبنوا عمارات ومزارع ؟، أضطررت لحظتها أن أفلت من الإجابة بموشحات الغزل بالأشقاء المصريين حسب فهمي المتواضع في ظل تردي العلاقات السياسية بين الأردن ومصر وغالبية دول العرب يومها على خلفية غزو الجيش العراقي للكويت ، ولم ينفعني التملق والنفاق ، فاعتذر « مقدم محسن « مني ، وأبلغني أنني ممنوع من دخول أم الدنيا ، ومكثت أربع ليال ليس المقال مقاما للحديث عنها.
اليوم وبعد عقدين من الزمن،نعود لنسأل ذات السؤال الذي سأله محسن بيك: هل هناك عمال غير الأخوة المصريين يعملون في قطاعات الإنشاءات والزراعة وخدمة المباني السكنية في بلدنا العزيز ، في ظل ثقافة التعليم الأكاديمي المتدفق من بحور العلوم كلها ، ليجري النهر الطويل من طوابير أبنائنا ليصبوا في محيط إنتظار الوظائف الجاف والتخصصات المشبعة ، واضمحلال التعليم المهني ، وفقدان الاستراتيجيات الواعية والحقيقية للنهوض مجددا من تحت هذا الركود الاقتصادي ، أو محاولات فتح أبواب العمل الإنتاجي لا الإستهلاكي كما نمارسه جميعنا فقراؤنا قبل الأغنياء.
عندما نهضت ألمانيا من تحت ركام الحرب العالمية الثانية ، نهضت بسواعد النساء أولا قبل أن يهب أطفالهن للمساعدة وتعلم أسس البناء ، لقد ترك الحلفاء ألمانيا أرضا بوارا مهدّمة مدمّرة مقسّمة ، لقد دمرت الحرب عليها البنية التحتية بالكامل ، وتم الإستيلاء على المصانع وآلات الإنتاج ، وتم سبي أكثر من 15 مليون رجل ألماني تقاسمتهم الدول العظمى كعمال وسجناء لإعادة تأديبهم والإستفادة منهم لبناء ما دمرته القوة العسكرية للزعيم الألماني أدولف هتلر الذي ركز على الصناعة والإنتاج في ظل حرب السنوات الخمس.
المانيا ـ الغربيةـ كانت تقفز كل عشر سنوات الى أعلى السلم الاقتصادي منذ العام 1945، معتمدة على 3مليار مارك تتلاقاها من»مشروع مارشال» و بخطط عشرية أعادت عمليات البناء وافتتاح المدارس الجديدة والمعاهد الصناعية بسواعد نسائها وفتيانها وركزت على اقتصاد السوق الإجتماعي مستفيدة من تعاليم أب المعجزة الإقتصادية الألمانية « لودفج إرهارد « فقد هب الألمان للثورة على وضعهم الكارثي ،ووضعوا الأفكاروالخطط وانخرطوا في نظرية التركيز على السوق الحر مع ضبط التوازن الإجتماعي ، واستعانوا بالأيدي العاملة من تركيا ، فكان العمال الأتراك يقومون بعمليات البناء والشغل ، وعلى الرغم من «الجزية» التي كانت تدفعها الحكومة الألمانية الجديدة حتى العام 1971 بواقع مليار دولار كتعويضات عن حرب هتلر فإن إقتصادها ناطح الغرب كله ، حتى وصل عام 2011 الى رابع أقوى اقتصاد عالمي بناتج يقدر بـ 3,5 ترليون دولار.
لن أقارن بالطبع بين الأردن والمانيا ، ولكن السؤال المحير: إذا كنا نحن من قبل وشبابنا اليوم لا نقبل إطلاقا بالعمل المهني ولا القبول بالأعمال التي تتطلب مجهودا عضليا ، ولا ننخرط في رفع الطوب والأسمنت للبناء ولا نحمل الفأس للزراعة، فكيف سنستغني عن العمال المصريين الأفضل بين العمالة الوافدة أو غيرهم بعد عشرين عاما من تصريح الوزير الدغمي لضبط السوق ، وكيف سنوفر مئات الملايين من الدنانير تذهب الى الفلبين وسريلانكا وأوكرانيا ومحطات الوقود التي تعبىء سياراتنا الفارهة نحن الكسالى.
"الراي"
ROYAL430@HOTMAIL.COM