يروي نعوم تشومسكي في حوار أجري من حكاية طريفة عن ألم الأسنان، يقول إنه كان يظن أن سبب الألم هو الضغط اللا إرادي عليها اثناء النوم ثم اكتشف أن السبب الحقيقي هو قراءته لصحيفة نيويورك تايمز، وما تعج به تحليلاتها من تلفيق، وكان أولى بنا نحن العرب أن نشعر بذلك، على الأقل حين نشر فريدمان مقالته الشهيرة عن رقائق الشبس، وقال إن العرب أدرى بهذه الرقائق من رقائق الكمبيوتر.
ويبدو أن هناك فيروسات يفرزها الورق سواء في كتب أم صحف، لكننا لا نشعر بها وهي تتسلل الى العقل .
أذكر أن عبدالناصر في آخر مؤتمر صحفي قبيل الخامس من حزيران بأيام قليلة رد على سؤال توجَّه به مراسل «الديلي نيوز» بشكل ساخر، وقال انه لا يستطيع النوم اذا لم يقرأ الصحيفة ويرى الكاريكاتور المخصص له ولأنفه الطويل، أما سبب ذلك فهو كما قال الزعيم الراحل.. إن الديلي نيوز هي «البارومتر» الذي يتعرف من خلاله على منسوب الوطنية في قراراته، فهي اذا توقفت عن شتمه يكون سبب ذلك أن مواقفه قد تراجعت.
والصحف ليست فقط ألوانا كالصفراء والرمادية والسوداء.. انها تصيب القارئ بالعدوى، سواء كانت حميدة وطيبة أم خبيثة، فثمة صحف تجعل النهار من أوله مبهجاً مقابل صحف اخرى تُفسد المزاج، ليس فقط عن طريق التضليل كما في «نيويورك تايمز»، بل عن طريق إطفاء الرغبة في الحياة، والتركيز الشديد على كل ما هو مأساوي.
ان هناك في كل صحيفة ما يتجاوز حاصل جمع الصفحات والتعليقات وعدد الورق انه الروح، تماماً كما هو الحال بالنسبة للزهور فروائحها لا تظهر تحت المختبر في التشريح.
ولكل صحيفة نكهة ومذاق، لا علاقة لهما بمادة معيَّنة فيها بل بالسياق كله، وبما يرشح من الورق خلف الكلمات وما بين السطور.
لقد وصفت المدن بأنها تشبه النساء، فمنهن خفيفة الظل والبليدة والجميلة والقبيحة والدافئة والباردة، وأرى أن هذا الوصف ينطبق أيضا على الصحف، فمنها المصقول باهظ التكلفة، لكن ثقيل الدم والحبر معاً، ومنها البسيط والشعبي الذي تنشأ بين ورقه وبين الأصابع علاقة حميمة ومنها الولود والعاقر، فثمة صحف ولدت من معاطفها الورقية سلالة من الصحف المتنوعة، مقابل صحف انقرضت لأنها بلا ورثة و لا هاجس يطيل من عمرها.
في عالمنا العربي وفي غابة الصحافة التي يتناسل فيها الورق بالانبوب نادرة هي الصحف الدافئة، والتي لا تفسد قهوة الصباح بالنسبة لمن يستيقظون مبكراً، وشاي المساء لمن لا يستيقظون قبل الغروب!
(الدستور)