دون غيرها من بلدان "الربيع العربي"، وضعت تونس قدميها على الطريق الصحيحة. فبينما تغرق تجارب التحول الديمقراطي الأخرى في حالة فوضى سياسية وأمنية لا تبشر باستقرار في المستقبل، خطت تونس خطوة جديدة نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية.
بعد إقرار دستور عصري للبلاد أوائل العام الحالي، أقر المجلس التأسيسي، أول من أمس، قانونا جديدا للانتخاب، يعتمد مبدأ التمثيل النسبي للقوائم، ويمنح النساء نصف مقاعد البرلمان الجديد. كما رفض أغلبية أعضاء المجلس مادة في القانون تحظر على رجال النظام السابق الترشح للانتخابات، أو ما عرف بنظام العزل السياسي. وكان لافتا تصويت أعضاء حزب النهضة إلى جانب إلغاء المادة؛ لتجنب الطعن بالقانون، كما صرح زعيم "النهضة" راشد الغنوشي.
وحسب خريطة الطريق التي توافقت عليها القوى السياسية التونسية، ستشهد البلاد قبل نهاية العام الحالي انتخابات تشريعية ورئاسية. وبذلك، تدشن تونس عهدا جديدا، وتؤسس لقيام أول جمهورية ديمقراطية حقيقية في العالم العربي، تقوم على مبدأ تداول السلطة وفق أرقى التشريعات السياسية.
اضطربت الأوضاع في تونس بعد الإطاحة بالنظام المستبد، وحاولت قوى داخلية وإقليمية جر البلاد للفوضى. وكادت القوى الرئيسة في المجتمع تنجر لهذا الصراع تحت ضغط المتشددين من مختلف الأطياف، خاصة الجماعات المسلحة المحسوبة على تنظيم القاعدة الإرهابي. لكن تونس، بإسلامييها المتنورين وتياراتها اليسارية والليبرالية والمدنية العريقة، انتصرت على ثقافة الفوضى والإقصاء؛ ومن خلفها قوى اجتماعية عريضة، وحركات نسائية ونقابية شجاعة، رابطت في الشوارع والميادين لحماية الوجه الديمقراطي للثورة، وتصدت ببسالة للقوى الظلامية والعدمية.
يعرض المفكرون والخبراء في الشأن السياسي جملة من الأسباب ليخلصوا بعدها إلى القول إن تونس مختلفة عن سواها من البلدان التي شهدت ثورات شعبية أطاحت بالحكام. من بينها، وعي التونسيين المدني الذي أسس له نظام الحبيب بورقيبة، وعلاقات تونس القوية مع المجتمع الغربي، وعدم وجود مؤسسة عسكرية قوية وطاغية كما هي الحال في مصر مثلا. كلها أسباب وجيهة بالطبع، وكان لها دور في نجاة تونس من مصير سوداوي.
لكن التجربة التونسية تستدعي بحثا أعمق لكشف أسرار النجاح، وتعميمها؛ لعل شعوبا عربية تستفيد منها وتقتدي بها.
هناك في العالم العربي من لا يريد تسليط الضوء على تونس اليوم؛ فمن ينظر لثورات "الربيع العربي" على أنها مؤامرة حاكتها قوى استعمارية، لا يرغب في رؤية دليل قاطع على عقم نظريته. ومن يسعى لتكريس الوضع القائم وحماية الأنظمة المستبدة أو ما تبقى منها، يتجاهل عن عمد قصة النجاح في تونس، حتى لا تتكرر.
لقد أثبتت تونس أن مصير الثورات ليس بالضرورة فوضى وعنف وحروب أهلية؛ ثمة طريق للنجاح أساسها التوافق وعدم الإقصاء، والأهم من ذلك التمسك بقيم الدولة المدنية التي تتسع للجميع، والإيمان بالديمقراطية، والحرص على مشاركة الأطياف كافة، خاصة في المرحلة الانتقالية التي لا تحتمل هيمنة طرف واستفراده بالسلطة، حتى لو أن صناديق الاقتراع منحته هذا الحق.
(الغد)