سمعت قصصاً عدة هذه الأيام لفت نظري أن صاحبها ينهيها بجملة واحدة «لعن الله الواسطة»، والذي استوقفني فيها أن صاحب القصة لم يكن الخاسر فيها بل كان المستفيد، لكنه على رغم ذلك يتحسّر، فائز لكنه غير راضٍ، وهذا وجه غرابة جديد، يبدو أننا في معرض تغيّر حقيقي لفهم هؤلاء المواطنين الشباب، فهم لا يريدون أن تنتهي بلادهم إلى حال مثل هذه. قريبي الأول شاب عائد من أميركا منهياً الماجستير في الإدارة، أي تعلم أموراً عميقة في الإدارة الجيدة، قال إن والد زوجته اتصل به وكلفه بالذهاب إلى مؤسسة حكومية كي يتسلّم أوراق تعيين زوجته في وظيفة جديدة، يقول حين تسلمت الأوراق قال لي المسؤول: «لا تخبر أحداً بهذه الوظيفة لأنها وظائف سرية». يقول قريبي: خرجت فرحاً بالتأكيد أن زوجتي حصلت على وظيفة، لكني حزين أن الأمر جاء بهذه الطريقة غير الأمينة، ثم ارتكب الخطأ الأكبر وأخبرني. «قال سرية قال»!
أما قريبي الثاني، فوقعته أوقع معي، إذ قصّ عليّ أن زوجته التي أمل ألا تقرأ هذه المقالة حثته على الذهاب إلى قريبها الطبيب في مستشفى حكومي كي يحلوا مشكلة الأطفال، يقول احتاج الأمر دقائق، مشيت في ممرات مكتظة بالمرضى الذين ينتظرون دورهم، بعضهم منذ ساعات، وبعضهم منذ أشهر، تجاوزتهم جميعاً بضمير موجوع كي يفحص الطبيب أبنائي الثلاثة، احتاجوا أشعة قد تقتضي الانتظار أشهراً، لكن الطبيب قال «امش معي»، دخلنا قسم الأشعة مثل جنرالات حرب لا يجرؤ أحد على التصدي لهم، صوّرهم، حدد المشكلة ثم صرف لنا العلاج، ثم قال لي الطبيب «في أمان الله». يقول قريبي خرجت أردد «لعن الله الواسطة».
سألتهم واحداً واحداً لماذا وأنتم الذين فزتم؟ قالوا ليس طـــيباً مذاق أن تحصل على حقك وأنت تشعر بأنك تتجاوز آخـــرين، ضميرنا أوقعنا في صراع، ففي الوقت نفسه الذي نشــعر فيه بأن من حقنا أن نحصل على علاج في مستشفى حكومي أو وظيفة تتطابق شروطها مع المتقدم إليها، إلا أننا نعرف أننا قفزنا على آخرين، تماماً مثلما تكون واقفاً في طابور جوازات طويل فيأتيك قريبك الذي يعمل في الجوازات ويقول لك تقدم، ويختم جوازك وتخرج، والجميع «يخزّك» بعيونه وتشعر بعيونهم في ظهرك وهم يقولون لعن الله الواسطة.
مؤشر طيب أن تصبح الواسطة محل قلق الضمير الحي، وفائدة الضمير أنه يسأل عن حقوق الآخرين ولا يكتفي بنيل حقه فقط، لكن هناك بيننا من يشرّع الواسطة ويسميها «الشفاعة الحلال» كي ينام الضمير في حظوة الخدمات الخاصة به وحده، وهذا سيجعل الأمر أسوأ بالتأكيد، فالمؤسسات الحكومية ليست حيازة أو ملكية خاصة يقسمها المسؤول بين أهله وعشيرته ومن يعز عليه، وكذلك خدمات المستشفيات والمرافق العامة، وهذه الواسطة لا تجدها في القطاع الخاص.
تشريع الواسطة هو تشريع للفساد، مثلها مثل الرشوة، لكن الطرف الأضعف فيها يصيح «لكنه حقي»، وكذلك في الرشوة فالمسؤول يقف بينك وبين حقك ويطلب رشوة.
السعودية وبحسب مؤشر معهد كاتو الأميركي وُضعت في المرتبة الـ40 في مؤشر البؤس في عام 2013 من بين 90 دولة، ونسبت السبب إلى معدل البطالة فيها، فماذا لو زدنا عليها هذه الأيام و «كورونا» يحاصرنا، أزمة المستشفيات التي لا يجد فيها المريض سريراً شاغراً؟ هكذا سيجتمع البؤسان، بؤس الصحة والعمل. و «لعن الله الواسطة».
(الحياة اللندنية)