مصر التي في خاطر العرب .. السفير احمد علي المبيضين
30-04-2014 01:08 AM
تطرح في بعض الأوساط الإعلامية والسياسية في الوقت الراهن في مصر، وأوساط عربية محدودة وعلى استحياء قضية تدفق وانسياب مياه نهر النيل نحو مصر دولة المصب الأخير.
ومصر كما تقول الأبجدية الأولى بهذا الخصوص، هي هبة النيل، وأم الحضارات التي تشكلت على ضفافه، فلا يماثلها حضارة، ولا يغمض ذلك الحضارات الأخرى، وليس من باب الصدفة أن يطلق المصريون بعفوية على بلدهم أنها "أم الدنيا". مصر مهددة في شريان حياتها الرئيس، والخطر يتعزز، مما لا يعطي فرصة لأحد أن يمتلك ترف الاستخفاف والاستهتار بهذا الموضوع الحيوي. والعرب الأقربين والأبعدين في أول الركب الذين ستمسهم تبعات الآثار المدمرة لهذا الفعل كيف ولماذا؟
تقوم دولة أفريقية عريقة وكبيرة هي أثيوبيا "الحبشة" والتي تعاني من قلة الموارد المالية والغير مالية، وصلت في العقود القليلة الماضية إلى موجات متلاحقة من المجاعة في أقاليم كثيرة من البلاد بإقامة سد كبير هو واحد من سلسلة سدود تزمع إنشاؤها على روافد النهر وخاصة النيل الأزرق وقد أسمته بسد النهضة أو السد الكبير.
وتدل المعطيات أنها انتهزت الظروف الإقليمية والدولية فبدأت منذ نحو عقدين مرحلة الدراسة والتخطيط والبحث عن التمويل ضاربة بعرض الحائط حقوق دولتي المصب التاريخية والقانونية.
في العصر الحديث ينظم تدفق المياه إلى مصر 55.5 مليار متر مكعب سنوياً و18.5 مليار متر مكعب للسودان اتفاقيتين الأولى موقعة بمشاركة بريطانيا عام 1929 والثانية اتفاقية القاهرة عام 1959 وكذلك ما يعرف بقانون الأنهار -فرع من فروع القانون الدولي- دول المنبع الأخرى ارتيريا، أوغندا، الكنغو الديمقراطية، كينيا، بوروندى وروندا بدأت القيام بأعمال مماثلة من التخطيط والبحث عن التمويل الخارجي للقيام بأعمال مماثلة لحجز المياه، دونما اكتراث لحقوق مصر والسودان أو حتى التباحث معهما. والمعلومات الفنية والعامة متوفرة لكل راغب في التفاصيل. وجل اهتمامنا هنا هو أن لهذه الأبعاد وبكل المقاييس تعتبر مسئلة أمن قومي عربي. ولا يمكن أن نمر على ذكر الحبشة والتي لها في ذاكرة العرب والمسلمين مخزون تاريخي فيه السم وفيه الدسم، ويعني ذلك أن المسئلة قابلة لكل الاحتمالات، وأولى الذكريات ما قام به ملكهم أبرهه الذي كان يكنى أبايكسوم بغزو مكه بهدف هدم الكعبة دون سواها وقوله عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي سيد قريش وصاحب عير مكه لرسول أبرهه "للبيت رب يحميه"، حتى لا ينتشب في شر مع الغازي، وكيف استنصر بالله على رد أبرهه وورود الواقعة في الذكر الحكيم في سورة الفيل. وصورة أخرى معاكسة ومتضادة عما سبق، تلك المتمثلة بالهجرة الأولى وأمثولة النجاشي ومعاملته المهاجرين بدينهم من المسلمين في مقدمتهم عثمان بن عفان، وكان ماجداً محبوباً وله سابقة في الإسلام مع امرأته رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم وأم سلمة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم والزبير بن العوام وأكثر من ثمانين رجلاً، وأترك لنفسي القول أن حق اللجوء السياسي على تلك السوية الممنوح من رأس الدولة قد أخطط بقبول أولئك الفارين من ديارهم بدينهم منذ ما يزيد عن ثلاث عشرة قرناًحتى اتفاقية هافانا العام 1928 المتعلقة بكيفية الحصول على حق اللجوء السياسي لمواطني الولايات المتحدة الأمريكية ودول أمريكا اللاتينية. وبرفض النجاشي طلب من أرسلتهم قريش عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل لإعادة المهاجرين وطردهم من الحبشة يشكل سابقة تاريخية يعتد بها حين تطرح الخطط والبدائل والحلول فيما لو توفرت الإرادة والإيجابية، وبنفس السياق فإن مبدءاً صلداً من مبادئ القانون الدولي مخالفته ألا وهو مبدأ احترام الالتزامات الدولية Pacta Sunt Servanda الذي يعد أقدم مبدأ من مبادئ القانون الدولي وقد عرف في حواضر الدول والأمم القديمة وأصبغ عليه البعض صبغة دينية وقدسية.
جاء في مقررات مؤتمر لندن 17/1/1871 تأكيداً لذلك أن أية دولة مهما علا شأنها من القوة والمكانة لا يحق لها التنصل من الاتفاقيات المبرمة بين الدول.
H. Wehberg, American Journal of International Law 1959 NV.
وتطالب المادة 102 من ميثاق هيئة الأمم بالتقيد التام والاحترام الصارم للاتفاقيات الدولية المبرمة، وأن أي مخالفة لهذا المبدأ سوف يفسد بالضرورةالعلاقات الدولية، ومبادئ التعاون. وأوجز بعض المرتكزات والأسس لبناء الخاتمة.
- إن المسئلة المطروحة هي مسئلة أمن قومي ووطني، وخطورتها وآثارها تترامى بعيداً وتباعاً إلى أن تطال الجميع، فإن الأمر من الخطورة بمكان أنه يحتاج قدراً من الحكمة والمنهجية الفكرية، أكثر من التفكير بالقوة الصلبة أو الغاشمة والأمثلة ساطعة. والدول الأقرب لمصر معنية بالأمر أكثر من غيرها نسبياً، والعلاقة العضوية بهذا المجال بين الأمن القومي والوطني مستوفية عناصر المسؤولية والإلتزام منذ قيام مملكة موآب حتى وقتنا الحاضر.
- إن احتمال قيام أزمة صراع دائم وطويل بين دول المصب من جهة ودول أو عدد من دول المنبع من جهة آخرى احتمال قائم وقوي.
- دخول أطراف عديدة من خارج الإقليم إلى دائرة التناقض أمر مؤكد، لاسيما بعد وضوح أطراف مختلفة تنطحت لتقديم الدعم والتمويل المالي الكبير بما في ذلك شركات كبرى عالمية ومتعددة الجنسيات، مشجعة على الاستمرار في سياسة إدارة الظن للأطراف المتضررة، دون محاولة إيجاد حلول بديلة وهو مدعاه للأهداف المعلنة والمستترة لبعض تلك الجهات. وشاهد هذه المواقف ولجلاء الصورة نذكر بأن خمسين ضعف من ما يصل السودان ومصر من المياه المقدرة بنحو 73 مليار متر مكعب تذهب سدى من دولتين فقط من دول المنبع في البحر وهذه الكمية الهائلة ليست من روافد النيل أو مياهه، فلماذا لا يلتفت إليها ويتم التعاون الدولي بهذا الشأن؟
- إن لمصر مخزون من خبرة طويلة في الشأن الإفريقي أكثر من أي دولة لكن هذه الخبرة اعتراها الخمول والضعف وإعادة التفاعل بتسخير الطاقات في بناء جسور التفاهم والتعاون أمر مربوط بعوامل لو توفرت فإنها تخدم بناء الثقة بين الأطراف كافة. وبهذا المجال فإن دول مثل المغرب والجزائر لديها قنوات اتصال ومعرفة بمفاصل المؤسسات المعنية بالتعاون وجب استغلالها. إن عدد الطلاب الأفارقة الدارسين والذين تلقوا علومهم في معاهد المغرب والجزائر وعلى نفقة الدولتين يشكلون نسبة تفوق أي عدد لأي دول أخرى. وهذا الرأي ليس من باب الاجتهاد، وإنما سنده معلومات دقيقة.
- إن التعاون الاقتصادي وصناديق الاستثمار والإقتراض والمساعدات والخدمات الاجتماعية الحكومية والأهلية من دول عربية عديدة يعتبر في كل الأوقات معين للنهل منه قيم التعاون والتفاهم ويمكن أن تلعب هذه الوسائل لو توفرت توسيع مجالات عملها أفضل الأدوار لإيجاد قواسم مشتركة للتفاهم مع الدول الإفريقية وغيرها التي طرحت للبحث وفي مد جسور جديدة من التفاهم والمساعدة مستلهمين كيف كان العرب الأوائل يعتمدون الكلمة الحق والقدوة الحسنة في نشر الدين الإسلامي الحنيف وقيام حضارات وتعاون تجاري متحضر في وادي النيل والسنغال ومالي والنيجر وتمبكتو وغيرها.
- إن المسئلة المطروحة لها أولوية يمكن أن تتصاعد لتصبح فعلاً ضخماً متخصصاً وليس موسمياً تأخذ بداية مكانتها في بيوت العلم والخبرة والمعرفة وفي مراكز البحث والتدبر مثلما كان كان الأزهر الشريف قبل عدة عقود قليلة ومعهده معهد العلوم الإسلامي وكذا الحال للخدمة الخارجية وأحد أذرعتها مؤسسات تابعة لجامعة الدول العربية من المفترض أن تنبري لهكذا قضايا استراتيجية.
وفي الختام هذه آراء قد تكون في ثناياها أمور مطروحة للخواص لكن مجملها قضايا عامة طرحت للإطلاع وليس حول أي منها سياج لحمايتها من النقد البناء أو الرفض قابلة للخطأ مثلما هي قابلة للصواب.