تضيع الفرص. تتكسر الرؤى أمام عناد الجشع الشخصي والخوف من الحداثة. تتراجع قوى العصرنة منهكة في مواجهة محافظة مشوهة لا تحافظ إلا على مكتسبات ولا تحمي إلا راهنا وفر لها ما لا تستحق من نفوذ وسطوة وقنوات إثراء. وتتسلل انتهازية سياسية وفكرية إلى طرح الإصلاح فتفقده صدقيته وتمنعه من التجذر ثقافة ترفدها القوانين والعمل المؤسساتي وأدوات المساءلة الفاعلة.وفي تلك الأثناء تتغير عمان، المدينة العاصمة الروح لوطن لا يملك كمالية إضاعة الفرص في زمن قاس أثقل كاهل الناس. تتغير ملامح المدينة باتجاه يبعدها عن أهلها ويأخذها إلى طريق تخبو عبر محطات رحلتها حميمية الوصل مع المكان. يغزو حواري المدينة عمران يعلو في سماء جبالها فيحيل قممها صغيرة غريبة عن فضائها الذي رسمته قصة بناء نقية منجزة عصت على تقلبات سنين جامحة.
تنهض الأبراج في عمان بمعزل عن الرؤية التي استهدفت إنجازا حضاريا يدوم، لا معالم مدنية هشة. فالأبراج التي تحتاجها عمان هي بناءات إصلاحية تثبت البلد على طريق التحديث والعصرنة المنارة بالتزام ممأسس بالدمقرطة وسيادة القانون وتساوي الفرص.
وتلك منارة حددتها الرؤية سبيلا لمراكمة إنجاز بلد أنجز رغم تنكر الرفضويين. لكنّ بعضا مؤثرا ممن أنيط به تنفيذ الرؤية ضل الطريق وسار نحو ما سهل وابتعد عما كان يجب مواجهته من اختلالات هيكلية في آليات إدارة الشأن العام. وبسبب ذاك صار حصاد التحديث بناءات شاهقة يمقتها الناس بدل أن يكون نهوضا وطنيا يثمر خيرا لمن يعمل ويستحق، ويردع من يعيق ويستغل.
الاستدراك واجب. وهو ما يزال متاحا. وسبيله تعريف الأولويات وتحديد القصور. وبعد ذاك لينطلق الإصلاح عملا مؤسساتيا مرتكزا إلى إرادة صلبة في بناء أردن ديمقراطي مستقر منتج ومعتمد برامج واضحة جريئة لبلوغ الهدف.
والبدء يجب أن يكون سياسيا. فالبيئة السياسية الرحبة هي الممر الذي لا سواه لكل إنجاز حياتي. والسياسة هنا لا تعني توجهات فكرية وطروحات فلسفية ونظريات لا نهاية لجدليتها. تعني إصلاحا تشريعيا وتغييرا ممارساتيا وتوفيرا لسبل تسييد القانون وحماية الشأن العام ممن لا يملك قدرة خدمته أو الرغبة في ذلك.
ولا ضرر في أن ترتفع الأبراج في عمان إن جاءت وفق مخطط تنظيمي يحمي تراث المدينة ويحفظ هويتها وفي سياق مراكمة إنجاز حضاري شامل الأوجه. يجب أن تكون الأبراج وغيرها مما يقدَّم دليلا على التحديث جزءا من كل مكتمل ينعكس على الكل خيرا. وحتى تكون الأبراج شاهدا على إنجاز حضاري، يجب أن يواكب تشييدها إتمام بناءات إصلاحية في التعليم والثقافة والسياسة والاقتصاد.
إذا ما تحققت هذه البناءات، تحديثا لقوانين الانتخاب والاجتماعات العامة وتفعيلا لقوانين محاربة الفساد ووقفا لأي ممارسات تتجاوز القانون وفعلا حقيقيا لحماية أجيال الغد من تدهور العملية التعليمية وتقدما ملموسا نحو تنوير الثقافة الجمعية وتوتيد معنى الانتماء فعلا نافعا لا سلوكيات نفعية، على سبيل المثال لا الحصر، ربما تبدو الأبراج ثمارا طبيعية في سياق عملية التحضير المنشودة. فالعمران الذي يدوم عمران ثقافي حضاري قيمي. إذا قام هذا جاء العمران المدني نتيجة حتمية.
من دون ذلك ستصير الأبراج صروحا إسمنتية منسلخة عن المكان تتوطن فيها العزلة والفوقية. وهذه مؤشرات نقص لا شواهد البناء الحضاري الناضج والمتوازن والمتكامل، سياسيا وثقافيا واقتصاديا، الذي يستحقه الأردن.
safadi@alghad.jo
عن الغد.