كلما راقبتُ الناس في هذا البلد، ازداد يقيني بأن اللبناني لا يفعل في هذه الحياة سوى الهرب من نفسه.
أنظر مثلاً الى الجموع الساهرة في الملاهي الليلية، فأشعر أن الذين يتراقصون ويشربون ويضحكون، غالباً ما يفعلون ذلك رغماً عنهم، بل أكاد اقول نكايةً بأنفسهم. كما لو أن الحياة مهمّة ينبغي إنجازها، أو فرض مدرسي. كل شيء في لبنان مسرحية. كأني بالبشر هنا يقولون: أبعدونا عن ذواتنا. جنِّبونا هذه المواجهة. لا نريد أن نعرف شيئاً. لا نريد أن نرى شيئاً. لا نريد أن نفهم شيئاً. لا نريد، على وجه الخصوص، أن نقرر شيئاً. حرِّكوا خيوطنا فحسب، ونحن نمتثل.
أنظر أيضاً الى أزلام الزعماء، فأكاد أرى رؤوس بطيخ متتالية ومتشابهة: لكأن الزعيم موجود لينسى الناس أنهم أفراد، لهم آراؤهم الخاصة، وآمالهم وحاجاتهم وخيباتهم الفريدة من نوعها. لكأن الزعيم مخدِّرٌ للوجود الفردي وهمومه وأوجاعه وشروطه وجماله. يقول له الأتباع: لا نريد أن نفكّر، فكِّر أنتَ عنا. لكنه، بدلا من أن يفكر عنهم ولأجلهم، يأخذهم الى هاوية: هاوية مطامعه الأنانية وجيوبه الجشعة ومصالحه الضيقة وارتباطاته المقيتة. رؤوس بطيخ منقادة الى السكّين بسعادة وهناء، طالما أنها مقتنعة بأنْ لا شيء في وسعها فعله حيال هذا المصير.
هربٌ بالجملة والمفرّق: الموظف يهرب، المدير يهرب، ربّ العائلة يهرب، التلميذ يهرب، المعلم يهرّب، رئيس البلدية يهرب، السياسي يهرب، الناخب يهرب: الكل يتغنى بالمسؤولية، ولا أحد يريدها. الكل يطالب بالحقوق، ولا أحد مستعد لدفع أثمانها. ليس أشطر من الناس في توجيه أصابع الاتهام الى "الآخر". "القدر" مخرج من الورطة، والإحساس بالظلم أسهل من الإحساس بالذنب. لكأن سرّ السعادة أن تشعر بالعجز. بأنك مسيّر وأُسقِط في يدك ولا حيلة لديك. أما الفرج، فقلة قليلة لديها شجاعة الايمان بأنّ لها يداً فيه، وتُعمِلها حيث يجب.
الغنم في هذا البلد أكثر من الهمّ على القلب. حتى الرعاة المزعومون، غنمٌ في قطعانِ آخرين، من بلدان أخرى. وهكذا الى ما لا نهاية. الطريق دائرة، وكلٌّ يلحق بمَن أمامه، لأن رفع الرأس والنظر الى البعيد مكلفٌ، ولأن الخروج من الصف مكلفٌ، ولأن المسؤولية مكلفة، ولأن الهلاك جماعاتٍ أجمل "أبوكاليبتياً" من الخلاص وحيداً. يكفي أن تعترض همساً بين الفينة والأخرى لكي تشعر بأنك بطل وتُريح ضميرك.
أنّى التفتُّ أسمع الثغاء فحسب. فهل ولّى زمن الزئير الى غير رجعة؟
(النهار اللبنانبة)