ان تكرار الأزمة في مدينة معان مرات كثيرة وعديدة ، يدل بشكل واضح وصريح على ضرورة تغيير الاستراتيجية المتبعة في التعامل مع الشأن «المعاني» بطريقة جذريّة وشاملة، وضرورة فحص كافة الاجراءات الصغيرة والكبيرة التي تخص هذه القضيّة بطريقة علمية موضوعية متأنية، فليس معقولاً الاستمرار بالاستراتيجية نفسها والاجراءات والقرارات ذاتها على مدار سنوات طويلة بدأت منذ عام 1989م.
قبل ما يزيد على العام اشتركت في زيارة للمدينة وجلسنا مع عدد من شخصيات المدينة، المعروفة بالثقافة والفكر والاتزان، وسعة الأفق وبعد النظر، وتم الاستماع الى وجهات نظرهم وتحليلاتهم لما يجري في المدينة، وتم الحديث عن ضرورة عدم الاكتفاء بالوصف والتشخيص، وضرورة عدم الاكتفاء بالنقد والشكوى، وانما يجب الذهاب الى طرح الحلول والبدائل، وتقديم الاقتراحات، واعداد الأوراق والدراسات من قبل أهل معان أنفسهم، معتمدين على معايشتهم للواقع، وملامستهم الميدانية لقضايا الناس ومعاناتهم، وطرق أبواب المسؤولين ومقابلة الحكومة، واقامة الحجة على أصحاب القرار.
وفعلاً تم تشكيل لجنة من بعض أساتذة الجامعات وأصحاب الخبرة، واجتمعوا ودرسوا وتحاورا وكتبوا واتصلوا بي طالبين مقابلة رئيس الحكومة من أجل عقد جلسة حوار هادئة مع دولته، وشرح الأوضاع بطريقة علمية بعيدة عن الغضب والانفعال، وبعيدة عن المبالغة والتهويل، من أجل تمكين أصحاب القرار من الاطلاع بوضوح ودقة على تفاصيل الواقع، ومن ثم امتلاك القدرة على اتخاذ القرارات السلمية، بالتعاون مع أصحاب الرأي والحكمة من مختلف الأطراف.
وقد حاولت جاهداً التهيئة لمثل هذا اللقاء ولكن للأسف تم الاستماع لهذا الاقتراح، ولكن لم يتحقق اللقاء، وانتظرنا أسبوعاً بعد أسبوع وشهراً بعد شهر، رغم أهمية الموضوع ورغم الحاجة الملحة لمثل هذا الأسلوب في التعامل القائم على المشاركة والتعاون مع أهالي البلدة في البحث عن الطريقة المثلى في المعالجة، ولم أستطع حتى هذه اللحظة من الوقوف على أسباب تعطل اللقاء وعدم تحققه.
على كل حال يجب أن نقرر في هذا السياق مجموعة من السياسات التي ينبغي أن تكون محلاً للتوافق الجمعي لكلا الجانبين الرسمي والشعبي وأهمها:
- البعد عن استخدام العنف والقوة في المعالجة، والبعد عن أسلوب فرض هيبة الدولة بالعصا الغليظة، مع ضرورة الاتفاق على أهمية هيبة الدولة وبسط القانون، ولكن الاختلاف بالأسلوب والوسيلة.
- لا يجوز بأي حال من الأحوال اللجوء الى القتل الميداني اذ تكررت حوادث القتل بدون محاكمة وبدون قضاء، فخلال عام واحد قتل عشرة اشخاص، ويحصي أهل المدينة قتل مايزيد عن (30) شخصاً خلال الأعوام المنصرمة، مع الاتفاق على ضرورة القبض على المجرمين والخارجين على القانون، وتقديمهم للعدالة، ولكن القتل قبل المحاكمة أمر مرفوض قطعاً وقولاً واحداً.
- ضرورة المسارعة الى حل مشكلة البطالة والعاطلين عن العمل، بطريقة لا تحتمل التأجيل، بوصفها أولوية قصوى مقدمة على أولويات أخرى، فالحكومة ليست عاجزة عن تشغيل (200) شخص خلال اشهر بالاضافة الى المضي في الحل الاستراتيجي بعيد المدى، وينبغي الاقتران بين المسار التنموي ومسار فرض هيبة الدولة في الوقت نفسه وبشكل متوازٍ.
- الارتكاز على الحلول القائمة على المشورة مع أهل المدينة، وعدم الاكتفاء بسماع وجهات نظر نفر مّمن لا يحظون بثقة الناس، ولا يعبرون عن رأيهم الحقيقي، من خلال الاقتراحات التي تم تقديمها قبل.
ان التباطؤ بالحل المدروس القائم على المعرفة والوضوح والتعاون والمشاركة؛ له عواقب مرعبة ينبغي عدم اهمالها أو التقليل من شأنها.
(الدستور)