أيّاً كانت الاعتبارات التنظيمية والإدارية ومبرّراتها، فإنّ قرار قيادة جماعة الإخوان المسلمين بفصل ثلاثة من قيادييها البارزين (مؤسّسي مبادرة "زمزم")، هو قرار أقل ما يقال فيه إنّه سيؤذي الجماعة، داخلياً وخارجياً. إذ إنه افتقد الحدّ الأدنى من الحكمة والبصيرة، وطغت فيه روح الانتقام والثأر والإقصاء على مصلحة الجماعة وصورتها الاجتماعية والسياسية، فضلاً عن تماسكها الداخلي!
ليس موضوعنا، هنا، تقييم مبادرة "زمزم"، أو الموقف منها؛ بل هو مدى إدراك قيادة الجماعة لتأثير هذا القرار وتداعياته السلبية في هذه اللحظة التاريخية الدقيقة التي تتعرّض فيها الجماعة، عربياً، لأخطر محنة في تاريخ مسيرتها، بما يتجاوز كل الحقب السابقة، مع حصار خانق شديد، حتى من الدول التي تسامحت مع الجماعة ووفّرت لها ملاذاً في العقود الماضية، مثل دول الخليج العربي. فيما يأتي هذا القرار ليخدم فقط خصوم الجماعة، في الأردن وخارجه!
التداعيات الأولية بدأت تتدحرج في الأوساط السياسية والاجتماعية والإعلامية، وفي مقدّمتها أنّ ذلك دليل على روح الإقصاء لدى الجماعة، حتى مع أبنائها الذين يفكّرون في مبادرات جديدة؛ وأنّ الجماعة لم تتعلّم من أخطائها في مصر ودول أخرى، وما تزال تكرّرها. وربما هيمنتها على إدارة نقابة المعلّمين تمثّل، بحد ذاتها، مؤشراً آخر.
صورة الجماعة في الخارج، مهمة جداً. لكن الأهم منها هو صورة الجماعة في الداخل، ومدى تماسكها، وقدرتها على "ترتيب بيتها الداخلي". إذ يكمن رهان خصوم الجماعة اليوم، بالدرجة الرئيسة، على الأزمة الداخلية الطاحنة التي ستتولّى هي تحطيم الجماعة وتحجيمها، من دون الحاجة إلى إجراءات قانونية أو سياسية، وهو ما يبدو أنّ القرار الجديد أخذه على عاتقه!
هل ستنتهي الأزمة بعد فصل القياديين الثلاثة؟ الجواب، باختصار، على النقيض من ذلك؛ ستتجذّر، وتهيمن على المناخ الداخلي. لماذا؟ لأنّ القيادة تعلم تماماً أنّ الشخصيات الثلاث المفصولة ليست وحدها، بل معها عشرات من أفضل شباب جماعة الإخوان وكوادرها المتحرّكة المنفتحة المعتدلة التي انضوت مع مبادرة "زمزم"، وهي لن تتقبل هذا القرار، وستجد أنّه مجحف واستثمار غير بريء من التيار الحالي الذي يقود الجماعة لابتعاد جناح الحمائم عن قمرة القيادة، وتصفية الحساب معه!
الأمر لا يقف عند هذا الحدّ؛ إذ إنّ قيادات الجماعة التاريخية، مثل عبداللطيف عربيات وعبدالحميد القضاة وإسحاق الفرحان وغيرهم، أبلغوا سابقاً قيادة الجماعة، بوضوح، بأنّ طرد قيادات "زمزم" أمر مرفوض، ولن يتم السكوت عليه. وهو ما ضربت به القيادة الحالية عرض الحائط، وعرّضت هذه القيادات التاريخية لموقف شديد الحرج. ما سينتهي غالباً إلى اعتزال هذه القيادات المعتدلة المعتبرة سياسياً واجتماعياً العمل التنظيمي، عملياً إن لم يكن رسمياً، وستخسر الجماعة أبرز رموز وقيادات الجناح المعتدل فيها!
بعد ذلك -وأعتذر عن الحديث بهذه اللغة، لكنني مضطر إلى ذلك من باب التحليل الواقعي- فإن مثل هذا القرار سيعزّز صورة الجماعة بتمثيلها لطرف اجتماعي دون الآخر، وسيسهل تصنيف الجماعة من قبل الأطراف الرسمية المعادية لها في هذا الاتجاه. وسنجد أنّ الجماعة تكرّس الأزمة الوطنية الداخلية، بعد أن كانت تاريخياً حاجزاً منيعاً أمامها. وأحسب أن سالم الفلاحات لن يقبل بموقع أمين عام الحزب بعد هذا القرار، ما يكرّس تلك الصورة المتأزمة عن البيت الداخلي الإخواني!
أرجو من أبناء الجماعة عدم التعجل في إصدار الأحكام والتبرير وانتقاد كل من يخالف هذا القرار؛ فليس كل نقد هدّاما، وليست كل محاولة للتغيير (كما فعل الزمزميون) سلبية، بل ربما يكون أكبر خصم للجماعة أو الحزب أو الدولة هو تلك العقلية التقليدية، فكما يُقال "العاقل خصيم نفسه"!
(الغد)