ليس هناك ما يستدعي الانفعال والقلق؛ الحياة السياسية الأردنية على هذا النحو منذ تأسيس الدولة قبل تسعين عاما. على الدوام، كان هناك نقاش ساخن حول مواضيع داخلية، واصطفافات في أوساط النخب؛ سمها شللاً أو صالونات، أيما تكون، المهم أن الأردنيين تربوا طوال هذه العقود على ثقافة التنوع. حتى في سنوات الأحكام العرفية وغياب الحياة البرلمانية، كانت النقابات والجمعيات والصالونات ميادين لسجالات سياسية صاخبة، تجاوزت أحيانا الخطوط الحمراء.
وإذا ما وضعنا الأحزاب العقائدية جانبا، فإن الأغلبية الساحقة من سادة المعارضة هم من رجال الدولة أو المحسوبين عليها. كانوا يدخلون الحكومات، وما إن يغادروا حتى ينتقلوا إلى صف المعارضة؛ أفرادا وجماعات. منذ أواسط السبعينيات وحتى أوائل التسعينيات، انقسمت نخب الدولة بين جماعة زيد الرفاعي وجماعة مضر بدران، وقبلهما بعقود كانت هناك انقسامات مشابهة. وعلى هامش المجموعتين الرئيستين، قامت فرق أخرى لمنافسين لكلا الطرفين.
في عهد المملكة الرابعة، تغيرت المعادلة تماما تبعا لظروف موضوعية وأخرى ذاتية؛ لكن السمة العامة للنخب السياسية الأردنية ظلت على حالها.
لا جديد إذن يستدعي حملات التخوين والتشكيك، كلما بادر سياسي إلى قول رأيه في محاضرة أو مقابلة. في العشرية الأخيرة، شهدنا حوارات ماراثونية حول الإصلاحات في الأردن، تخطت كل الحدود، وناقشت أدق التفاصيل. لم نتفق على كل شيء، لا بل اختلفنا على أمور كثيرة، ومع ذلك كان الجميع على قناعة بأننا نتقدم إلى الأمام، وفي أسوأ الأحوال يُقال إننا نراوح في منتصف الطريق.
لم نتمكن بعد من تأطير الحياة السياسية على ما نتمنى، فكان من الطبيعي أن تبقى العملية السياسية في البلاد قائمة على الظواهر الفردية، والانحيازات الشخصية أحيانا. وأكثر من يتعب من إدارة حالة كهذه هو صاحب القرار. يكفي البرلمان هنا مثالا على الواقع المشتت للنخب السياسية.
كل نخب الدولة التي تعاقبت على مواقع المسؤولية غير راضية من بعضها؛ الرئيس السابق ينتقد من سبقه ومن لحقه، وفي دوائر صنع القرار الأخرى الحال ذاتها. لكن لنعترف؛ النقاش تطور مؤخرا وصار سجالا حول برامج وتصورات. سمير الرفاعي يطرح برنامجا، يقابله معروف البخيت برؤية ثانية؛ ويدخل الليبرالي مروان المعشر على الخط بتصور مختلف؛ وعلى مسافة أبعد أحمد عبيدات بمواقفه المعروفة منذ سنوات. الإسلاميون في المشهد أيضا، لم يغادروا ساحة السجال السلمي كما فعل أقرانهم في دول أخرى؛ منقسمون؟ ربما، لكنهم أكثر تفهما للمعادلة الأردنية من ذي قبل.
يظهر عبدالكريم الكباريتي في المشهد بعد غياب طوعي، ويقول كلاما مهما وعميقا لم نسمعه منذ سنوات. هل يؤسس ظهوره النادر في ندوة "شومان" لعودة قريبة إلى ساحة النشاط السياسي؟ لا نعرف بعد، وإن كان الرجل متمسكا باعتزال العمل السياسي حتى الآن.
مثل هذه الأجواء ليست غريبة على الأردن؛ هكذا عشنا عقودا. بالطبع، لا نريد أن نستمر على هذه الحال. أجيال تطمح إلى حياة قائمة على مؤسسات حزبية وديمقراطية مستقرة. لكن الطريق ما تزال طويلة على ما يبدو.
لو أن مواطناً سورياً أو ليبياً تابع ردود أفعالنا وصخبنا السياسي، لتعجب من حالنا؛ لا نحتمل وجهة نظر مخالفة ونعدها خطرا على الدولة والوحدة الوطنية.. إلخ من قاموس الاتهامات، بينما الناس هناك يموتون بالجملة، ويفتقدون أدنى إحساس بالأمن والاستقرار.
ما من سبب يستدعي أن نخاف من بعضنا؛ الأردن على هذه الحال منذ تأسس، وسيبقى.
(الغد)