سيكون إنجازاً كبيراً في مصلحة دول الخليج ومصلحة الدول العربية إذا ما تحقق ما يوحي به بيان وزراء خارجية مجلس التعاون بعد اجتماعهم في الرياض (الأربعاء الماضي). أقول ما يوحي به، وليس ما يفصح عنه.
فالبيان لا يقدم أكثر من الإيحاء، لأنه لا يفصح عما تم الاتفاق عليه. أهم ما جاء فيه الفقرة التي تقول إنه تم في الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية «إجراء مراجعة شاملة للإجراءات المعمول بها في ما يتعلق بإقرار السياسات الخارجية والأمنية، وتم الاتفاق على تبني الآليات التي تكفل السير في إطار جماعي، ولئلا تؤثر سياسات أي من دول المجلس في مصالح وأمن واستقرار دوله، ومن دون المساس بسيادة أي من دوله». يبدو من هذا النص أنه تم التفاوض طويلاً حول موضوع «السياسات الخارجية والأمنية» لقطر وتأثيرها في الدول الأخرى، وكأنه لم يتم الاتفاق على التفاصيل كلها. لذلك جاء النص يقول الشيء ونقيضه.
فمن ناحية يقول إنه «تم الاتفاق على تبني الآليات التي تكفل السير في إطار جماعي»، وهذه جملة تفيد التزام الجميع بآليات محددة - لم تذكر - تكفل العمل الجماعي. من ناحية أخرى، يؤكد البيان على أنه تم الاتفاق على ألا «تؤثر سياسات أي من دول المجلس - المقصودة قطر - في مصالح وأمن واستقرار دوله، ومن دون المساس بسيادة أي من دوله». أي أنه يحق لأي من دول المجلس أن تكون لها سياستها الخارجية التي تعبّر من خلالها عن سيادتها ومصالحها، لكن بشرط ألا تؤثر هذه السياسة في مصالح وأمن واستقرار الدول الأخرى. وهذه كانت حال السياسات الخارجية لدول المجلس قبل الخلاف وبعده، وقبل الاتفاق الأخير.
إذاً، ما المقصود بـ «السير في إطار جماعي»؟ وكيف يمكن التوفيق بين حق كل دولة في سياسة خارجية تعبّر عن سيادتها، وبين «إطار جماعي» للسياسات الخارجية لدول المجلس؟ هذا تحديداً ما فشل مجلس التعاون في تحقيقه حتى الآن. هل اتفاق الرياض الأخير خطوة أولى لتصحيح هذا الوضع؟
واضح أن هناك خلافات أمنية وسياسية كبيرة اضطرت بسببها السعودية والإمارات والبحرين إلى سحب سفرائها من قطر الشهر الماضي. وواضح كذلك - من خلال الوساطات والاجتماعات وما صدر عنها من بيانات وتصريحات - أن هذه الخلافات معروفة لدول المجلس، لكن عناصر هذه الخلافات غير معلنة رسمياً. مصادر رسمية قامت بتسريب كل أو بعض من هذه العناصر إلى الإعلام. فصحيفة «الحياة» نقلت أول من أمس عن مصادر خليجية، الأرجح أنها عمانية، بأن من أهم هذه العناصر الحملات الإعلامية (من قبل قطر)، وإيواء عناصر «إخوانية» تسيء إلى دول الخليج، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المجلس. وتنقل «الحياة» عن المصادر ذاتها بأنه تم تشكيل لجنة لمتابعة تطبيق ما ورد في وثيقة الرياض (غير المعلنة بعد)، بحسب هذه المصادر ينحصر الخلاف مع قطر في مواضيع خليجية.
أما صحيفة «القبس» الكويتية التي نقلت عن تقارير إعلامية وليس مصادر رسمية، فتفيد أن الخلاف يمتد ليشمل الموقف من مصر. وبناء عليه، تم الاتفاق في اجتماع الرياض الأسبوع الماضي على ثلاث نقاط: الأولى طرد قطر 15 عضواً من «الإخوان»، من مواطني مجلس التعاون، يقيمون في الدوحة، خمسة منهم إماراتيون، وسعوديان، والبقية من البحرين واليمن. الثانية موافقة قطر على إنهاء هجوم محطة «الجزيرة» على السعودية والإمارات ومصر، وتجنّب الإشارة إلى ما يحصل في مصر باعتباره انقلاباً عسكرياً. والثالثة منع المعارضين المصريين الموجودين في قطر من اعتلاء المنابر القطرية الإعلامية الداخلية والخارجية، ووقف دعم قطر لـ «الإخوان» وحيادها في الأسابيع القليلة المقبلة إزاء ما يحصل في مصر، ووقف التحريض على المشير السيسي في انتخابات الرئاسة. ويقال أيضاً بأنه مطلوب من قطر إغلاق بعض مراكز أبحاث لديها تروّج لأفكار وسياسات لا تنسجم مع مصالح دول المجلس، ولا مع متطلبات الأمن فيها. ربما يكون في كل ذلك خليط من الإشاعات والمعلومات الدقيقة، وهو أمر طبيعي في حال غياب المعلومة الرسمية الصحيحة.
ليس من المنتظر أن يعلن للرأي العام عن كل شيء يتعلق بالسياسات الخارجية والأمنية. لكن ليس من المنطق ولا من المصلحة أيضاً ألا يتم الإعلان رسمياً عن أي شيء حول هذه المواضيع. فمعرفة الشعوب العربية في الخليج عن أحوال أمن دولها واستقرارها، وما يتخذ في شأنه يتعلق بأمن واستقرار هذه الشعوب، ويتعلق بحقوقها أيضاً. وإخفاء كل شيء عن الشعوب يزيد من الهوة بينها وبين دولها، وهي هوة لا تخدم لا الأمن ولا الاستقرار.
في السياق نفسه، لم يتطرق بيان الرياض الأخير إلى عودة سفراء الدول الثلاث، كونه جزءاً مما تم الاتفاق عليه. لذا يقال - مرة أخرى - إن السفراء لن يعودوا قبل شهرين أو ثلاثة، هي مدة اختبار مدى التزام قطر بالنقاط والآليات التي تم التوافق عليها. في المحصلة الأخيرة هناك اتفاق، لكن على ماذا؟ على الالتزام بتنفيذ ما جاء في «وثيقة الرياض» التي وقّع الجميع عليها قبل أكثر من ثلاثة أشهر. هذا واضح، لكن وثيقة الرياض غير معلنة، والبيان الأخير يتسم بالعمومية والإنشائية والتناقض.
لا يقول ما هي نقاط الخلاف، ولا كيف تم تجاوزها، ولا ما الآليات التي تم التوافق على الالتزام بها لتحقيق ذلك. في هذه الحال يصح التساؤل: هل هو اتفاق واضح يضع حداً نهائياً للخلافات ويفتح صفحة جديدة، أم أنه اتفاق على تهدئة الأجواء، وعدم السماح لخلافات المجلس بأن تتحول إلى ثغرات يتسلل من خلالها خصوم دول المجلس، ويستخدمونها أوراقاً للضغط في مرحلة إقليمية حرجة؟
الخلاف السعودي - القطري له سحنة غريبة، ولا يبدو أنه يتفق مع منطق الأشياء. بدأ عام 1995، ويبدو - ضع خطاً تحت «يبدو» - أنه بدأ رحلة النهاية الأسبوع الماضي. أي أن عمر الخلاف الآن أكثر من 18 عاماً. لماذا لم يحسم منذ يومه الأول؟ هو خلاف بين أكبر دول المجلس وأغناها، وأحد أكبر الدول العربية من ناحية، وبين أحد أصغر الدول الخليجية والعربية وأغناها أيضاً، من ناحية ثانية. وهو خلاف ليس الوحيد داخل تكتل يفترض أنه أقوى تكتل سياسي اقتصادي عربي عرفته المنطقة في تاريخها الحديث، تتمتع دوله باستقرار سياسي، وبتجانس اجتماعي واقتصادي، ولا تواجه معارضة جذرية من الداخل (ربما عدا البحرين)، ورخاء مالي غير مسبوق في التاريخ العربي، وعلاقات إقليمية ودولية واسعة ومريحة. والأغرب أن هذا الخلاف استمر في مرحلة انتقالية حرجة تمر بها الدول العربية، من أكثر المراحل اضطراباً في التاريخ العربي الحديث.
كان يفترض أن تكون دول المجلس بمثل هذه المواصفات في موقع من يضبط إيقاع الاضطراب، ويقود قاطرة التحول في المنطقة بالمبادرة في الداخل والخارج معاً. هل يمكن أن يكون اتفاق الرياض الأخير إيذاناً بشيء مختلف، أكثر إيجابية وإقداماً؟ وإذا كان كذلك، فلماذا لم يُعلن بعض من مواضيعه وتفاصيله للناس، الشريك الثاني في المعادلة ذاتها؟ ثم هل انتهى الخلاف حقاً؟
(الحياة اللندنية)