حين أهداني الصديق مفلح العدوان كتابه الجديد موسوعة القرية الأردنية- بوح القرى الجزء الأول قلت في نفسي ان لا حاجة لي بقراءة هذا الكتاب مصقول الورق من القطع الكبير الذي يحمل الرقم 46 في سلسلة اصدارات مركز الرأي للدراسات والواقع في نحو من 568 من القطع الكبير (555 صفحة باللغة العربية و 13 بالانجليزية) لسبب بسيط وهو انني كنت قد تابعت كل ما نشره العدوان من صفحات موثقة بالصورة والحكايات، والتي بدا من خلالها وكأنه يذهب بعيداً في المغامرة لاكتشاف ما هو منسي أو لازالة الغبار عما طواه الاهمال وكرسته البيروقراطية وجسدته الهجرة الكثيفة من الريف الى المدينة حتى كاد الأردن ان يتحول الى بلد من ثلاث أو اربع مدن وإن غامرت بالقول سبع مدن فإنك لن تقع في خطأ جسيم..كنت اداعب مفلح العدوان وأقول له أي بداية هذه التي تبدأ في شكل انتقائي وغير مترابط؟ فيبتسم في مراوغة وكأنه يقول لي انتظر سترى ما هو مندرج في اطار خطة مدروسة ومنهج في البحث قد يكون غرائبياً لكنه واعد.. فأبادله الابتسامة التي غالباً ما كانت تنطوي على رهان بأن جهد مفلح العدوان سيكون جهداً ضائعاً وبلا طائل.

اعترف الآن، ان القاص الذي يحمل شهادة الهندسة والقادم من الأغوار والمقتحم لاسوار عمان وحلقاتها الثقافية ودائماً الشلليلة التي كانت تتسع عند الحاجة وتضيق باستمرار، في سلوك اقرب الى الانعزالية والتقوقع، كسب الرهان عندما أصدر الجزء الأول من موسوعة القرية الأردنية تحت عنوان بوح القرى، لأنه قد الزم نفسه بأن يواصل المشوار، وان يكمل ما تبقى من اجزاء، كون الجزء الأول على ثرائه وعمق مادته ومحاولة المؤلف تناول سيرة القرى بطرق ومقاربات غير مألوفة أو على الأدق غير تقليدية، لم يكن (الجزء الأول) شاملاً، بل بدا لي وأنا اتابع مادته المنشورة على صفحات الرأي انتقائياً وغير منظم، أقصد ان مفلح العدوان كان يأخذنا الى جنوب البلاد ثم لا يلبث ان يذهب بنا نحو الأغوار ليعود الى مأدباً قافزاً بعد اسبوع الى الشمال وطائراً في اسبوع آخر في اتجاه الصحراء ليتسللعائداً بعد ذلك الى ضواحي السلط وعمان والزرقاء والبادية..

التف مفلح العدوان وقد ادرك (ربما) عدم الانسجام الذي سيكون عليه الكتاب اذا ما ادرجه وفق ما نشرته الرأي تاريخياً اقصد تاريخ النشر في الصحيفة، فلجأ الى حيلة جميلة بأن قام بترتيب القرى الأردنية وفق اسمائها الأبجدية مطلقاً عليها اسم موسوعة القرية الأردنية ما سيؤسس الى مشروع كبير لن تكون حروف الموسوعة الابجدية (بعد اكتمال العمل) كما هي في الجزء الأول غير كاملة واكبر حرف لا تزيد عناوين قراه عن خمس كما في حرفي الباء والراء، وما تبقى من حروف فأن لكل حرف قرية واحدة.

ما يثير الدهشة في كتاب مفلح العدوان هو جودة المادة البحثية المترافقة مع تأريخ للقرى التي خضعت للبحث والدراسة والتدقيق والمراجعة، وأيضاً اللغة التي صيغت بها حكاية كل قرية حتى لكأني أرى المؤلف عاكف على تطويع مادة قصصية كتلك التي برع في دفعها قبل سنوات لا تزيد على عقد من السنين، الى المطابع والمغامرة بالانضمام الى نادي كتّاب القصة القصيرة حتى غدا العدوان أحد كتاب القصة، بما استطاع ان يتوفر عليه من قدرة على تكثيف الحبكة واستيلاء الشخوص والاضاءة على مكتوباتهم واخراج الاسئلة من صدورهم وتشخيص أمراضهم التي كانت في معظمها امراض القرية والبادية والبلدة الكبيرة التي غدت مدينة وهي على رغم ما يبدو في ظاهرها من حداثة وعصرية واقتراب من نماذج المدن العريقة إلاّ انها ما تزال اسيرة التخلف الاجتماعي وغياب الحريات وقمع المرأة وتواصل النقاش حول جدلية علاقة المثقف بالسلطة وخواء الحياة الثقافية وانفصام الشخصية الذي يطبع حيوات الذين يدبون على أرضها وفي طرقاتها والأزقة وفي الأروقة والمكاتب وحفلات الفنادق والصالونات السياسية..

لست انوي الترويج لكتاب مفلح العدوان الجديد الصادر للتو عن مركز الرأي للدراسات، بقدر ما اود القول انه كتاب جدير بالقراءة والتأمل في مادته وحجم الجهد الذي بذله المؤلف وما تضج به الصور المرفقة الجميلة والمعبرة من معان واشارات وحياة حميمة لقرى حسبنا انها منذورة للفقر والبطالة والتخلف فقط.

kharroub@jpf.com.jo