إعلان الأجهزة المعنية، عن إلقاء القبض على أستاذ جامعي، وبحوزته كمية كبيرة من حبوب المخدرات، لا يجوز أن نتعامل معه على أنه مجرد حدث عابر.. فهو أكثر من ناقوس خطر يؤشر إلى حجم الكوارث التي صارت تغرق بها جامعاتنا الأردنية التي عجزت واحدة منها عن ان تكون في قائمة الجامعات المتميزة على مستوى العالم، بينما حققت ذلك جامعتان سعوديتان. وهو أمر طبيعي في ظل اهتمامات جلّ أساتذة الجامعات في الأردن حيث يحتل الجانب المادي أولويتهم الأولى، حتى لم يعد مصادر المال مهمًا عند بعضهم كما هو الحال في واقعة الشخص الذي تم إلقاء القبض عليه.
في حين صار التميز الأكاديمي في ذيل اهتماماتهم.. وربما خارج هذه الاهتمامات أيضًا؛ بدليل ان هؤلاء الأساتذة أو جلّهم لا يصرفون شيئًا من جهدهم أو مالهم أو وقتهم لتغذية مخزونهم العلمي، فقد صدمني أستاذ جامعي كهل تجاوز الخمسين من عمره، وهو يهمس في أذني أنها المرة الأولى التي يركب بها الطائرة في حياته كلها، وانها المرة الأولى التي يغادر بها الأردن منذ أكثر من ثلاثين عامًا، فالمرة الوحيدة التي غادر بها الأردن كانت عندما شارك في رحلة عمرة أثناء دراسته الثانوية.. معنى ذلك أن هذا الأستاذ الجامعي لم يشارك في ندوة، أو مؤتمر خارج الأردن، وأنه لم يزر متحفًا، أو مكتبة عامة، أو جامعة غير أردنية، وأنه لم يطلع على تجارب الآخرين، ولم يحاورهم، وأنه لم يخصص جزءًا من دخله لنفقات السفر والاطلاع على ما يجري حوله في هذا العالم الممتد القائم على تفاعل الحضارات، وتواصل المدنيات.
باختصار شديد.. فإن هذا الأستاذ الجامعي لم يحصد أية فائدة من فوائد السفر التي وثقتها كتب التراث، وتداولها أهل العلم والمعرفة. فكيف سيُعلّم مثل هذا الأستاذ الجامعي طلابه فن التواصل مع الحضارات، والحوار مع الآخر، وجلّ عالمه محصور في بعض كتب قرأها في تخصصه لينال شهادة جامعية «يتعيش» منها، بعيدًا عن هموم العالم وقلقه الذي يدفعه للمزيد من البحث والاكتشاف والمعرفة؟ وهذه كارثة حقيقية تعيشها جامعاتنا، لأن الأستاذ الذي أتحدث عنه ليس وحيدًا ومنفردًا في هذا الباب من أبواب الانغلاق.. فكثيرون من العاملين في جامعاتنا الأردنية تنتهي علاقتهم بالبحث والمعرفة واكتساب المزيد منها بمجرد حصولهم على الشهادة الجامعية.
لذلك لم يكن مستغربًا أن تفصل جامعات أردنية بعض أعضاء هيئاتها التدريسية، لأنهم لم يقدموا لسنوات طويلة أوراقًا بحثية، حتى لغايات الترقية والترفيع، ويقال إن بعضهم أمضى ما يقارب العقدين دون أن يفعل ذلك. وفي هذه مخالفة صريحة لقوانين وأنظمة الجامعات، وهذه كارثة أخرى من كوارث جامعاتنا.. أعني بها تقاعس أعضاء هيئاتها التدريسية عن البحث، حتى أن معظمهم يستغل سنة التفرغ العلمي التي تمنحها لهم جامعاتهم لا «ليبحث» بل ليعمل بوظيفة أخرى، ويزيد الطين بلَّه أن بعضهم يمضي سنة التفرغ العلمي بوظيفة حكومية، وهنا يبرز الوجه الآخر من الكارثة، والمتمثل في تقاعس الجامعات عن تطبيق قوانينها وأنظمتها، وبسبب هذا التقاعس تمر السنوات، دون ان يقدم الكثير من أعضاء الهيئات التدريسية أوراقًا بحثية، وبسبب هذا التقاعس أيضًا صارت سنة التفرغ العلمي سنة لعمل إضافي، وتحسين دخل الأستاذ الجامعي، بدلاً من تحسين ورفع مستواه العلمي والمعرفي من خلال البحث، وهذه كارثة ولدت كارثة أخطر منها، أعني بها غياب روح البحث عند طلبة جامعاتنا، وافتقر جلّهم ان لم يكن كلهم إلى امتلاك أدوات البحث العلمي، ولجوئهم بدلاً من ذلك إلى شراء البحوث المطلوبة منهم من مكاتب تجارية، يقال ان بعض أساتذة الجامعات يملكونها أو شركاء فيها، ثم نسأل بعد ذلك عن أسباب غياب البحث العلمي وعن سوء المخرجات الجامعية في بلدنا..
كثيرة هي الكوارث التي تعيشها جامعاتنا، على أن أخطرها على الإطلاق هي كارثة سيطرة النزعة التجارية على الحياة الجامعية في بلدنا، فمنذ أن فُتح باب التعليم الخاص الجامعي بالتحديد على يد بعض المتنفذين في بلدنا، والذين صار بعضهم شريكًا في أكثر من جامعة داخل وخارج الأردن، منذ ذلك الوقت بدأت رحلة الانهيار في التعليم الجامعي في بلدنا.. فقد صار بعض أنصاف الأميين أصحاب جامعات، وأصحاب قرار في تلك الجامعات، لا يهمهم من أمر التعليم الجامعي إلا ما يحققونه من أرباح، وقد اخبرني من أثق به أنه دخل على رئيس أحد الجامعات ليقول له: إن قريبًا له ما زال أمامه مادتان للتخرج، فما أن علم رئيس تلك الجامعة أن الطالب حامل المادتَيْن قد سدد رسومه الجامعية حتى اتخذ قرارًا بتخرجه على الفور واعتباره ناجحًا.
فما يهم هذه الجامعات والقائمين عليها هو مستوى تحصيلها المالي لا مستوى تحصيل طلابها العلمي. لذلك لا غرابة في أن تصبح عائلات كاملة من أقارب بعض ملاك هذه الجامعات من حملة الشهادات الجامعية العليا.
فإذا أضفنا إلى ذلك ما يقال عن وجود نسبة لا بأس بها من الشهادات العليا المزورة، أو المأخوذة من جامعات متدنية المستوى, وإذا أضفنا إلى ذلك أيضًا، ما يقال عن قبول بعض أعضاء الهيئات التدريسية للهدايا من طلابهم، أو مساومتهم لطالباتهم. في ذلك هذا اللهث وراء المال وجمعه لا نستغرب إلقاء القبض على أستاذ جامعي وبحوزته كل هذه الكمية من الحبوب المخدرة، ومن ثم لا نستغرب هذا السوء في مخرجات التعليم الجامعي، ولا نستغرب أن تكون جامعاتنا مرتعًا للعنف، فقد سقطت هذه الجامعات في مستنقع أمراض المجتمع، بدلاً من ان تنشل المجتمع من هذا المستنقع، وهذه أم الكوارث. لأن كوارث الجامعات تلد كوارث في مجتمعنا.
"الرأي"
Bilal.tall@yahoo.com