آثرت مصطلح السياحة على مصطلح الصياعة الأكاديمية مع أنهما يشتركان في المقصد والغاية نفسها من حيث عدم اتجاههما حقيقة إلى فعل علمي هادف، أو تحصيل دراسي قاصد، هذا ما نشاهده في الواقع عند كثير ممن يرتاد الجامعات بدعوى طلب العلم، فالصياعة مصطلح جديد دخل قاموس المفردات الأكاديمية وفرض نفسه بقوة على أبواب الجامعات وساحاتها ومتنزهاتها وتحت ظلال أشجارها.
ومن المعاني التي تذكرها كتب اللغة لهذه المفردة: التفرق والهيجان، فإذا ما طابقت أو قارنت بين مدلولها وبين الحالة الأكاديمية السائدة في الجامعات لوجدت وجوها من الشبه كثيرة، فثمة تفرق وانتشار يعصف به هيجان الشغب والعنف.
أذكر ويذكر زملائي كيف كان اهتمامنا بتحصيل العلم والدراسة، كانت حقائبنا مليئة بالكتب نستثمر أوقات الفراغ في القراءة بين المحاضرات، ونذهب للمكتبة فنقضي فيها ساعات طويلة، كنا نبذل الوقت والجهد طلبا للعلم لأنّ قناعاتنا أكيدة بأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يفعل، وأنّ العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وأنّ فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك كان أساتذتنا يحدثوننا عن زمانهم وطلبهم للعلم، وكنا - في نظرهم - مقصرين في طلب العلم أيما تقصير! كانوا يبكون العلم أن لا طالب له !
واليوم نرى كيف يقضي طلبة العلم أوقاتهم في الجامعات، وكيف تحولت الجامعات في بعض الأوقات إلى مسارح للغناء والطرب والدبكات الشعبية، وأحياناً إلى ميادين للمشاجرات والعنف واستعراض للعضلات، ودائما إلى ساحات للشغب أو العشق أو البحث عن شريك أو شريكة حياة! فما الذي يحمله طالب العلم اليوم – ولا أقصد الجميع طبعا فلا زلنا نرى وجوها مشرقة تتطلع بجد واجتهاد لطلب العلم- إنه لا ينفك عن حمل شيئين لا ثالث لهما، الأول: هاتف خلوي متطور ، والثاني: علبة سجائر، يدخل الجامعة دون قلم يكتب فيه، ودون قرطاس ودون كتاب، يبذل في تسريح شعره بالجل وقتا ليس بالقليل ... يدخل الجامعة يقضي ساعات طويلة في متنزهاتها يسمع الأغاني على تلك الهواتف، .. يشرب القهوة .. يتبادل أطراف الحديث ... ولربما يغازل .. أو تراه مشغولا بتكنولوجيا العصر ووسائلها الهائلة في الاتصال والدردشة على الفيسبوك أو تويتر أو الواتس آب، أو على ألعاب .... يغيب عن محاضراته، كأنه في رحلة سياحية لكنها يومية، ولو قلت صياعة تتخذ من الأكاديمية ستاراً لكنت صائباً في التعبير!
كذلك، لم يعد في حقيبة الطالبة غير مرآة وأدوات زينة وعطور، وإكسسوارات وهاتفين خلويين أو واحد .. يتخذ بعضهن من الجامعة مسرحا لعرض أزيائها، بل يخرجن إلى الجامعة كأنها عروس تزف إلى زوجها! بهدف طلب العلم ! فضلا عن الزينة الاصطناعية كالأظافر وعدسات العيون الملونة اللاصقة، ولربما لا يكفيها أن تستيقظ قبل الفجر بساعة، ليس لقيام الليل طبعا، ولكن لتهيّئ نفسها وتخرج في كامل زينتها للذهاب إلى الجامعة! أليس هذا تصرف سائحة تتخذ من الجامعة ستارا لطلب العلم!
تدخل المكتبات العامة في الجامعات فتجدها خاوية على عروشها، أو تجد تراجعا كبيرا في نسبة الذين يدخلونها بهدف طلب العلم، ولماذا يدخلونها؟ فعضو هيئة التدريس لا يفكر بإلزامهم ببحوث يكتبونها في كل مادة إما إهمالاً منه، لا يريد أن يتعب نفسه بقراءة بحوث فلا وقت لديه! أو أنه يجد نفسه معذوراً فلربما يكون في الشعبة الواحدة عنده مائتا طالب! أو يتجاوز مجموع الطلبة الذين يدرسهم في الفصل الواحد الأربعمائة طالب! فلا يستطيع أن يكلفهم! ... رحم الله زمانا كانت المكتبات العامة تعج بالطلبة لا تجد مقعدا فارغا إلا بعد طول انتظار ! أما اليوم فقد حظيت أدراج المباني في الجامعات وساحاتها العامة ومتنزهاتها وتحت ظلال أشجارها بهذه المنزلة!
صدق أو لا تصدق ! أن طالبا بمستوى السنة الثالثة، أجاب عن سؤال إنشائي بكلام مكتوب لكنه غير مقروء، فاستدعاه مدرس المادة فقال له: هل أنت من كتب هذا الكلام؟ قال : نعم. قال: فاقرأ ما كتبت. قال: لا أعرف القراءة. قال له: في أي سنة أنت؟ قال: في السنة الثالثة. قال: كيف وصلت إلى السنة الثالثة وأنت لا تجيد الكتابة؟ قال: لأن كل الأسئلة التي تأتينا في الامتحانات اختيار من متعدد، أي: ضع دائرة، لأجل هذا لا أستطيع القراءة والكتابة ! تُرى كيف سيخدم هذا الطالب الوطن بعد التخرج !
ويأتي طالب آخر يكتب معترضاً على درجته النهائية في الامتحان قائلا: أخذت المادة عند فلان... وأخذت الفاينل ... ولقد وجدت المادة لقد طلعت علي ... !
وأتساءل: هل بات هماً لعضو هيئة التدريس أن يغرس في نفوس طلابه حب العلم ؟ وهل بات همّا عنده أن يملاً أوقاتهم بطلبه وتحصيله. إنني لا أجافي الحقيقة حين أقول: إن نسبة من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات أسهمت بحالة الصياعة الأكاديمية التي طغت على العملية التعليمية .. كنت أمشي خلف طالبين يتحدثان في الطريق، يقول أحدهما لزميله: خذ تلك المادة عن ذلك الدكتور فهو أحسن دكتور في الجامعة، فتساءل زميله لماذا؟ قال: أولاً لا يأخذ حضور وغياب! ثانياً: لا يكلفك بأي واجبات أو بحوث خلال الفصل! وثالثاً: أقل علامة عنده 90 فما فوق؟ أجل هذه معايير الدكتور الأحسن والأفضل في نظر طلابنا يقيمونهم على هذا الأساس! فما دام الدكتور لا يرصد حضور الطالب أو غيابه كأنه يأذن له بطريقة غير مباشرة بالسياحة!
ويؤسفني أن أقول: نحن أعضاء هيئة التدريس لم نؤد رسالة العلم، فنتج عنها هذه الأوضاع السائدة والسلوكيات المنافية لطلب العلم. إن الأنظمة والتعليمات الجامعية ما وضعت إلا للارتقاء بمستوى التعليم، فالالتزام بها يحقق هذا الهدف!
أما عضو هيئة التدريس فهل يمارس نوعا من السياحة الأكاديمية؟ أقول: نعم، خاصة بعض المتنفذين منهم! لا يترك مؤتمرا داخليا أو خارجيا إلا ويشارك فيه يغيب عن محاضراته وواجباته الأكاديمية الأخرى لا بهدف العلم، ولكن بهدف السياحة "وشمّة الهوا" والتعرف على البلدان والأقطار، بدليل أن بعض هؤلاء لا يتابع جلسات المؤتمر كلها، ويقتصر حضوره على الجلسة التي يقدّم فيها بحثه ! إنه تمثيل صوري يكلف جامعته تكاليف باهظة! والادعاء بأن المشاركة في المؤتمرات على هذا النحو هو تمثيل للوطن وتمثيل للجامعة ما هو إلا تمثيل عليهما! إنّ الأعراف الجامعية ما جعلت المشاركة في هذه المؤتمرات إلا للرقي بمستوى عضو هيئة التدريس الأكاديمي والمعرفي ... وتوسيع آفاقه العلمية مما ينعكس إيجاباً على أدائه وتدريسه وبحوثه العلمية.