أحال مجلس الوزراء قبل عدة أيام مشروع قانون إستقلال القضاء لمجلس الأمة للسير بالإجراءات الدستورية لإقراره وإصداره وقد تناوله البعض بما فيهم عدد من السادة القضاة بالنقد قبل أن يشرع مجلس الأمة بدراسته, وقد تناول هذا النقد تخوف السادة القضاة من مخاصمتهم مدنياً في حال إرتكاب أي منهم الغش أو الخطأ الجسيم حسبما هو وارد بالمادة (39) من مشروع القانون, كما إرتأى البعض وممن شاركو في إعداده ضرورة الإبقاء على هذا النص ولكن إرتأيت أن أتناول هذا الموضوع بمهنية وقبل أن أتناول هذا الموضوع, فإن القضاء ليس بحاجة لأحد أن يدافع عن إستقلاله, حيث أن المادة (97) من الدستور نصت على أن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون وأن القضاة هم من يدافعون عن أنفسهم من خلال أحكامهم العادلة, كما أن القضاء إطمئنان قبل أن يكون عدلاً وأن من حق المتقاضين وغيرهم أن يكونوا مطمئنين من عدالة وكفاءة القاضي, وأن القاضي إنسان يصيب ويخطئ ويغضب ويمرض, وهذا يترتب عليه توفير بيئة قضائية مناسبة تساعده على القيام بعمله بمعزل عن الخوف والملاحقة, حيث لا يجوز أن يقضي القاضي وهو غضبان بمعناه المطلق, سواء أكان هذا الغضب ناشئ عن عدم توفر الأمن له بسبب أحكامه أوغيرها.
وبالرجوع للموضوع أعلاه, فإن إستقلال القضاة لا يعني أنهم محصنون أو منزهون من الملاحقة والمحاسبة, إذا خرجوا عن واجباتهم الوظيفية. إذ يجب أن يكونوا حريصين أكثر من غيرهم على تطبيق القانون, لإن القضاء العادل هو الذي يزرع الإستقرار والأمل والأمان ويعزز الإنتماء للمواطنين بوطنهم وقيادتهم, مادام يوجد قضاء مستقل وعادل لا ينحني إلاّ للقانون.
وإنطلاقاً من هذا الفهم فلا بدّ من إعطاء القاضي الحقوق التي تتناسب مع وظيفته ومهمته المقدسة, وإن هذه الحقوق عديدة ومتشعبة ومن بينها المالية والمعنوية وتحقيق وتطبيق مبدأ الكفاءة والجدارة بالترقية والنقل وغيرها بين القضاة أنفسهم, بحيث أن لا تكون الأقدمية لوحدها هي أول الشروط للترقية وإن هذا يترتب عليه قتل روح المنافسة والإبداع والتميز بين القضاة وإن الأخذ بهذه المبادئ وتطبيقها, فإن ذلك سيشكل إحدى الوسائل التي ستساعد على إيصال القضاة المتميزين إلى درجات ووقائع متقدمة في الجهاز القضائي والذي يصب في سيادة القانون وتوزيع العدالة على مستحقيها بأقل كلفة وبمدة معقولة.
وبما أن للقاضي له حقوق, فإن عليه واجبات ومن بينها قيامه بواجباته الوظيفية وبمعيار الشخص اليقظ المتخصص وأن تتم ملاحقته ومساءلته تأديبياً في حال خروجه عن واجباته الوظيفية أو إهماله أو تقصيره ولكن ومن وجهة نظري يجب أن لا تمتد ملاحقته مدنياً ومطالبته بالتعويض عن أحكامه القضائية, مادام أن حكمه لا يكون نهائياً, حيث تخضع أحكامه للمراجعة والمراقبة من خلال درجة أو درجتين من درجات التقاضي ويوجد قانون يحدد وينظم إجراءات المحاكمة والطعون والتظلم من تلك الأحكام ويوجد جهة قضائية مختصة تقوم بمراقبته والتفتيش على أعمال وتستقبل الشكاوى التي تقدم ضده, ويوجد مجلس قضائي يتولى إدارة الجهاز القضائي وتصريف أعماله ومراقبة أعضائه ومحاسبة أي قاضي يخرج عن واجباته الوظيفية والتي تصل أحياناً إلى إنهاء خدمته.
إن زيادة حجم العمل القضائي غير المسبوق في هذه الأيام من حيث الكم والنوعية قد يؤدي إلى وقوع القاضي بأخطاء, وللتقليل من ذلك, فإنه يحتاج إلى رفدة بإعداد من القضاة الأكفياء والمتخصصين وهذا من شأنه أن يخفف من معاناة القضاة بسبب الكم الهائل من القضايا التي تنظر من قبلهم, كما أن تعزيز مديرية التفتيش القضائي وإعادة تقييم أعمال القضاة من المجلس القضائي خلال مدة معقولة وكلما إستدعت الضرورة لذلك لمكافاءة المجد وتحفيزه وتمييزه ومحاسبة ومساءلة المقصر وتطبيق قاعدة الثواب والعقاب فهي جميعها تشكل بدائل معقولة ومقبولة من الجميع لعدم ملاحقة القاضي مدنياً في حال تناوله بالغش أو الخطأ الجسيم ومطالبته بالتعويض والذي من شأنه أن تتراكم القضايا ويتأخر الفصل بها بسبب ذلك ووصول الحقوق إلى مستحقيها بعد مدة طويلة, منوهاً من أن القاضي في حال إرتكابه أي إثم جنائي, فإنه يخضع للملاحقة القضائية كأي شخص عادي بموجب قانون العقوبات, كما تتم ملاحقته تأديباً في حال إرتكابه لأي إثم وظيفي بموجب قانون إستقلال القضاء وهذا كافٍ ويكفي لتحقيق الغاية والأسباب الموجبة التي حدت بمجلس الوزراء بإدراج المادة (39) في مشروع القانون أعلاه بملاحقة القاضي مدنياً عن الأحكام التي سيصدرها إذا إعتورها غش أو خطأ جسيم.
وأخيراً,إن ما ذكرته هو عبارة عن جزء من الأفكار والتصورات التي ستساعد وتعين على إستمرارية قضائنا بالتقدم للنهوض برسالته المقدسة بما يحقق العدالة وسيادة القانون للجميع وعلى الجميع وبالوقت ذاته, فإننا نطالب أصحاب الشأن بدعم القضاء لمواصلة النهوض برسالته السامية والمقدسة وتوفير البيئة المناسبة ورفده بالكفاءات من أبناء الوطن المخلصين والمؤمنين بسيادة القانون وتطبيقه حقاً وصدقاً وقولاً وفعلاً وللحديث بقية والله من وراء القصد.