تعكس معالجة مشكلاتنا صورة كوميدية سوداء، وهي من نوع يجعلك تضحك في عز الألم، فمثلاً نقرأ في الصحف أن شاباً ضبطته الشرطة على أحد الجسور ينوي الانتحار فأخذته للمركز وكتّبته تعهداً «بألا يعيدها مرة ثانية ثم أطلقته»، أما المتسللون إلى سورية والعراق وفي نيتهم المشاركة في القتال أو القيام بعمليات انتحارية فتوعدناهم بالسجن ثلاثة أعوام إن عادوا، وأكاد أرى حال الشاب في هاتين الحالتين، المنتحر والانتحاري وقد وضع أمام قدرين إما أن يموت أو يسجن، ما يدفعه إلى أن يحسّن أداءه في المرة المقبلة، فالمنتحر سيفكر جيداً كيف ينتحر قبل أن تقبض عليه الشرطة، والانتحاري سيحرص على أن تنفجر فيه القنبلة حتى لا يعود، وكأننا بجملة طارق بن زياد الشهيرة «العدو من أمامكم والبحر من ورائكم».
السبب طبعاً في هذه الكوميديا السوداء هو أن من يعالج الحالة هو الطرف غير المعني بها، فالشرطة مثلاً ليس من مهماتها التعامل مع المنتحر بل إحالته إلى مؤسسات طبية واجتماعية ونفسيه تساعده، فهو مريض، لأن السوي لا يُقدم على رفض الحياة فحبها غريزة في الإنسان، كما أن الذاهب إلى سورية للقتال أو العراق للتفجير ليس الحل في توعده بالسجن حين يعود، بل على المؤسسات المعنية تتبع آثار الظاهرة ومعالجتها من جذورها.
بسبب هذه المعالجات الكوميدية صرنا اليوم إلى مواجهة من نوع أسوأ، لا ينفع معها التهديد بالسجن لأن صاحبها بلا عقل أصلاً، فقد استيقظت الرياض على حادثة بشعة قد لا تكون الأولى من نوعها، لكن تصويرها بيد حاملي الهواتف الذكية ونشرها في وسائل التواصل الاجتماعي صدما الناس وروّعاهم وهددا أمنهم، وهي صورة شاب في الـ30 يطعن عاملاً هندياً «بائع بقالة» طعنات متكررة وسط الشارع أمام المارة وتركه في دمائه وأعطاه ظهره وكأنه ركل كرة، وأسفرت التحاليل بعد القبض عليه أن تعاطيه حشيشاً جعله يتصور أن أشباحاً تلاحقه. القتل تحت تأثير الحشيش قد يكون عاملاً لكنه ليس كافياً لتبرير هذه الجريمة، خصوصاً إذا عرفنا أن الحي اشتكى منه طويلاً، وأنه كان نزيل مستشفى الأمل للأمراض النفسية والإدمان، وخرج من المستشفى بعد فترة علاج، لأن المستشفى يعاني مثل معظم مستشفياتنا من قلة قدرته الاستيعابية. المؤسف أن تبريرات المستشفى - على رغم منطقيتها - غير كافية، فهي تقول إن أهالي المرضى الذين لا يتعاونون مع المستشفى بعد انتهاء فترة علاجهم لا يمكنها حل مشكلاتهم، وهذا صحيح، لكن هذا يعني أننا نصبح في مواجهة مرحلة أخرى من العلاج قد تحتاج مؤسسات أخرى تكمل العلاج والمراقبة، خصوصاً الميئوس منهم أو من لا تتوافر لهم عائلات قادرة على السيطرة على مرضهم النفسي أو إدمانهم، والنتيجة أن هؤلاء المرضى بالجنون أحياناً والخطرين أحياناً أخرى صاروا مشهداً مألوفاً في أحيائنا وشوارعنا، ويحرص بعض شبابنا على وضع صورهم في وسائل التواصل الاجتماعي لفضح الحال السيئة التي وصلت إليها مؤسساتنا. حالات تدمي القلب والضمير نشرتها الصحف، منها تلك الأم في الصحراء التي تضع ابنها المراهق في قفص وتقدم له طعاماً لأنه أصبح خطراً، ورجلاً يمشي عارياً في أحد شوارع العاصمة وليس في قراها، وها هو اليوم مجنون يطعن عامل بقالة، وغيرها حالات لم تصل إلى علمنا، لكنها بالتأكيد وقفت طويلاً أمام أبواب المؤسسات تطلب منهم المساعدة، وهذه المؤسسات تكتفي بصرف الدواء الموقت لأمراض تحتاج متابعة وربما احتجازاً طويلاً لكن السعة لا تسمح.
نحن مجتمع معدل الولادات فيه هو الأعلى عالمياً، لكن مؤسساتنا باقية على سعتها القديمة، لهذا فإن مشهد أرملة تصرخ في مقطع تلفزيوني بأنها جائعة، أو مجنون يتجول في حي العاصمة ويهدد أمنه أو يطعن رجلاً، هو عار في وجه مسؤوليها ورجال أعمالها ومثقفيها. هل لدينا نقص في الأموال كي لا يجتمع رجال الأعمال حين تقصر المؤسسات وتعجز عن إقامة مراكز رعاية وتطبيب لمحتاجيها؟ فعجباً أن ترى رجال أعمال تتصدر أسماؤهم دوريات كرة القدم وقمصان اللاعبين، في حين لا ترى أسماء على مؤسسات العناية بالأرامل والمجانين، وهذا عار من نوع آخر أيضاً.
(الحياة اللندنية)