في خطاب الفوز الذي ألقاه فور ظهور نتائج الانتخابات البلدية في تركيا، ظهر رئيس وزراء تركيا طيب رجب أردوغان تلميذًا نجيبًا للمدرسة السياسية والفكرية التي ينتمي إليها، وهي مدرسة إقصائية لا تقبل بالآخر.. فقد ظهر الرجل متشنجًا مهددًا متوعدًا باجتثاث خصومه، رافضًا للحوار معهم، مبعدًا مبدأ المشاركة، وبهذا فإن السيد أردوغان لم يستفد شيئًا من تجربة حلفائه في مصر، إبان حكم الدكتور محمد مرسي، (فرج الله كربته، وكربة إخوانه) الذين لم يتعلم أردوغان من تجربتهم. فالإقصاء يؤلب الآخرين عليك، وهو بالضبط ما حصل في مصر ومرشح للحصول في تركيا.
لقد كان على الرجل أن ينسى وفور إعلان نتائج الانتخابات كل المماحكات والألاعيب الانتخابية، ويمد يده بدلاً من ذلك لشركائه في الوطن خاصة، وان فيهم أيدي طالما قبلها وطلب بركتها، قبل ان يتهمها بالكذب والتحشيش، لكن أردوغان بدلاً من ان يفعل ذلك صعد من أجواء التوتر التي سبقت ورافقت الانتخابات البلدية، وحولت صورته من زعيم يتمتع بالتفاف الجميع حوله، إلى سياسي تهتز الأرض تحت قدميه، وتتحول تظاهرات التأييد له إلى تظاهرات ضده، وتنقلب المسيرات التي كانت تخرج إلى المطار مرحبة به، كما حدث عندما عاد من دافوس بعد مواجهته الشهيرة مع بيريز، إلى مسيرات منددة بسياسته، كما حدث عند عودته من جولته الآسيوية قبل أسابيع. فما الذي حصل حتى ينقلب حال أردوغان؟ وما هي الأخطاء التي ارتكبها الرجل وقادته إلى ما هو فيه الآن؟.
يجيب متابعون للشأن التركي بالقول: إن الرجل أصيب بوباء الغرور الذي يقود إلى الفردية والتسلط. وإن دائرة ضيقة من المستشارين تحيط به، وتغذي هذه النزعة لديه. مما يوقعه في المزيد من الأخطاء القاتلة، وفي طليعة هذه الأخطاء، أن الرجل نسي درسًا أساسيًا من تاريخ البشرية عمومًا، ومن تاريخه الشخصي أيضًا؛ خلاصته أن الحركات الفكرية لا يمكن هزيمتها بالدم والنار والاعتقال والاتهام؛ فالفكر لا يهزمه إلا فكر أقوى منه، يقيم الحجة عليه، ويفند مقولاته. والأدلة على ذلك كثيرة من تاريخنا المعاصر.. فحركة الإخوان المسلمين التي ينتمي إليها أردوغان، تعرضت عربيًا للكثير من الاضطهاد والملاحقة وقرارات الحل، خاصة في مصر، لكن الأيام كانت تثبت دائمًا انها الحركة الأكثر انتشارًا والأشد تنظيماً.. وفي ظني أن هذه الحركة لم تخسر طوال عقود طويلة من الملاحقة والمطاردة الأمنية، بمقدار ما خسرت خلال سنة واحدة من تجربتها في حكم مصر، وبمقدار ما خسرت من تجربتها الوزارية في الأردن.
ومثلما هو الحال في البلاد العربية، فقد فات أردوغان أيضًا أن كل المطاردات والملاحقات الأمنية التي تعرض لها أستاذه ومعلمه نجم الدين أربكان، لم تنل منه مثلما نال منه انقلاب حلفائه عليه وانشقاق تلاميذه عنه، وفي مقدمتهم أردوغان نفسه، الذي يبدو في مواجهته مع «حركة الخدمة» وغيرها من قوى المجتمع المدني التركي، انه لم يتعلم الدرس. ذلك أن «حركة الخدمة» ليست تنظيمًا عسكريًا ولا نقابة موظفين يمكن حلّها، ولكنها مدرسة فكرية تربى تلاميذها ومحبوها على قواعد فكرية واضحة، فيندفعون إلى تحقيق أهدافها بقناعة ورضى وقوة اعتقاد، وأول ما ينزل عنه هؤلاء التلاميذ والمحبون، هو المال، مما يعني أنه لا يمكن إغواؤهم أو تخويفهم، وهذه واحدة ليست لمصلحة أردوغان مع «الخدمة». فالحكومات يمكنها ان تحبط انقلابًا عسكريًا أو مؤامرة يحيكها مجموعة من الموظفين. لكنها أبدًا لا تستطيع ان تهزم مدرسة فكرية يؤمن بها تلاميذها. وهذا ما يؤكده تاريخ البشرية عمومًا، وتجربة أردوغان الشخصية كرجل ينتمي لحزب عقائدي لم تهزمه قبضة العسكر وملاحقاتهم وسجونهم. فهل أنست السلطة رئيس الوزراء التركي هذا الدرس؟ هل أنسته السلطة جزءًا من تجربته الشخصية؟.
ومثلما تقول حقائق التجربة البشرية: إنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل هزيمة حركة فكرية، فإن هذه الحقائق تقول: إنه ليس من الحكمة ان تفتح معركة مع صحفي، فكيف إذا كان الأمر مع طوابير من الإعلاميين، مثلما يفعل رجب طيب أردوغان الآن؟ فقد أدخل الرجل نفسه في معركة مع جيوش من الإعلاميين. ويكفي هنا ان نشير إلى الإعلام الدائر في فلك «حركة الخدمة» والمؤمن بأفكارها، وفي الطليعة منه صحيفة «زمان» أكبر الصحف اليومية التركية التي توزع يوميًا حوالي المليون وربع المليون نسخة، والتي لها عدة طباعات خارج تركيا. بالإضافة إلى شقيقتها «زمان تودي» الناطقة باللغة الانجليزية. كذلك وكالة أنباء جيهان أكبر وكالة أنباء خاصة في تركيا، والتي تمتد شبكة مراسيلها إلى أكثر من ستين دولة، عدا عن شبكة فضائيات «درب التبانة» التي يزيد عدد قنواتها عن الثلاث عشرة قناة فضائية، تبث بلغات عدة. هذا غير القنوات الإذاعية، والصحف الإلكترونية التي يديرها أبناء الخدمة. فإذا أضفنا إلى ذلك كله وسائل الإعلام الأخرى والمناهضة لأردوغان. الذي أضاف إلى قائمة أعدائه وسائل الإعلام المجتمعي وفي مقدمتها «التويتر» و»اليوتيوب». علمنا أية عاصفة وضع الرجل نفسه في عينها. فهل يستطيع أردوغان ان يغير حقائق التاريخ فينتصر على حركة فكرية، ويهزم جيوش الإعلاميين، ويكسر أقلامهم وكاميراتهم، ويُكمم أفواههم؟ أم ان الأيام ستثبت ان أردوغان لم يتعلم الدرس، وان نشوة الصناديق أفقدته بوصلة الوصول إلى شطآن الآمان؟.. فلننتظر. "الراي"
Bilal.tall@yahoo.com