هذا عنوان ضخم خطير، وتنعكس ضخامته وخطره على حجم الجرم والجناية التي يقع فيها طالب يزعم أنه باحث عن العلم، أو عضو هيئة تدريس يقف معلما للأجيال من غير استحقاق ولا أهلية ولا جدارة.
ولعله إذا وضعت سرقة علمية في إحدى كفتي ميزان ووضع في الكفة الأخرى سرقة امتدت إلى المال العام، لرجحت الكفة الأولى بأضعاف مضاعفة ! لأنّ الآثار السيئة للسرقة الأولى غير محدودة، والسرقتان كلتاهما جريمة في حق الوطن. وكيف يجوز في الخلق والفضيلة أن تسرق جهود الآخرين فيقوم عاجز اتخذ من العلم مطية بانتحالها ناسباً إياها لنفسه؟ وكيف يجوز أن ينشر باحث بحثا باللغة الفرنسية – مثلاً- وهو لا يستطيع تركيب جملة واحدة باللغة الفرنسية! ومع أنّه سبيل لا يسلكه إلا شرذمة قليلون، إلا أنّه أخذ ينمو شيئا فشيئاً على مرأى ومسمع من قيادات أكاديمية متنفذة. وقد كنا نسمع أنه محصور في بعض ضعاف النفوس من الراكبين موجة العلم الموجهين لطلبته من الأساتذة، ولكنه اتسع ليشمل طلبة الماجستير والدكتوراه، لقد استطعت أن أضبط خلال مسيرتي الأكاديمية اثنتي عشرة رسالة علمية مسروقة امتدت يد أصحابها إلى جهود الآخرين فسرقتها ونسبتها لأنفسها زورا وبهتانا.
وشمل هذا الداء طلبة البكالوريوس كذلك، فقد استسهلوا هذا الطريق، تكلفهم ببحوث في بعض المواد فإذا هم يبحثون عن أي مادة عبر (الإنترنت) فيسحبونها، ويقدمونها كما هي بمصادرها ومراجعها، حتى مقدمات البحث لا يستطيعون كتابتها ... هذا المرض الأكاديمي وافق تساهلاً من الإدارات المتنفذة في المؤسسات التعليمية والجامعات، بل من أعضاء هيئة التدريس كذلك، وهو مؤشر خطير يؤذن بفساد العملية التعليمية؛ إذ كيف يطلب من سارق في مرحلة الماجستير أو الدكتوراه مثلا أن يجري تعديلات على رسالته، والأصل الذي توجبه التعليمات والأعراف الأكاديمية أن يحال إلى لجنة تحقيق ليفصل من الجامعة ويحرم من أي درجة علمية! وكيف تسكت الإدارات المتنفذة في الجامعات عن بعض أعضاء هيئة تدريس قامت الدلائل على تورطهم بهذه السرقات، ...، ثم ترقيهم بعد ذلك إلى رتب أعلى !
ولا أقف عند هذا النوع من السرقات، بل هناك نوع آخر، ذلكم هو ما شاع وانتشر في البحوث العلمية المشتركة. إنّ فلسفة البحوث المشتركة تقوم على إحداث نوع من تكامل معرفي بديع بين حقول معرفية مختلفة، فضلاً عن تبادل الخبرات بين أعضاء هيئة التدريس مما ينمي آفاقهم العلمية والمعرفية. ففكرة البحوث المشتركة فكرة رائعة؛ فحين تجتمع قضية تربوية مع تأصيل شرعي مثلاً يكون البحث اكثر عمقاً، وحين تجتمع قضية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو تاريخية مع أصول ومنطلقات قرآنية في البحث تؤتي ثمارا يانعة وعلما قيما... لكنّ مبدأ البحوث المشتركة قد أسيء تطبيقه واستخدامه فماذا يحدث؟ يحدث أنّ عضو هيئة تدريس يكتب بحثاً ويريد أن يسدي معروفا لزميل آخر فيشركه في البحث دون أن يكتب هذا الآخر كلمة واحدة ! ولربما كان البحث في غير تخصص هذا الزميل ولا يظهر أثر تخصصه في البحث المشترك مطلقاً! أو على مبدأ "المجاملة الأكاديمية" يطلب زميل من آخر أن يشركه في بحث ليقوم هذا الزميل بإشراكه في بحث آخر ويرد له الجميل والمعروف ! أو يكون هذا الزميل إدارياً متنفذا يستثمر موقعه في الضغط على زملائه، فيقوم بعضهم بالتودّد إليه وإشراكه في بحوثه دون أن يكتب حرفاً ! هذا إن لم يكتبوها له ويقدموها له هبة أو هدية ! ليحظوا برضاه وهباته وعطاياه التي لا يدفع ثمنها من حسابه الخاص طبعاً، بل على حساب العملية التعليمية برمتها ! فهل يجوز هذا السلوك من الناحية الشرعية؟ وهل تجيزه الأعراف الأكاديمية؟ وما موقع هذه المجالات في البحث العلمي؟ أليست سرقات تتم بموافقة الطرفين!
وأتجاوز ذلك النوع إلى نوع ثالث من السرقات العلمية، ذلكم هو المتعلق ببحوث الطلبة، طلبة الماجستير والدكتوراه، حيث يكلفهم بعض أساتذتهم ببحوث في المواد التي يدرسونها ربما تكون لها صلة بالمادة التي يدرسون، وربما تكون الصلة بينهما منقطعة، فأن يكلفهم ببحوث لها صلة بالمادة أمر مشروع لا حرج فيه، لأنه يخدم أهداف المادة ومقاصدها، بل هو واجب تفرضه التعليمات والأعراف العلمية، وهو من أسس تقويم الطالب في المادة، لكن غير المشروع هو أن يستثمر عضو هيئة تدريس بحوث طلابه بإدخال تحسينات عليها أو نشرها باسمه كما هي دون الإشارة إلى جهود الطلبة أو ذكر أسمائهم على تلك البحوث أو الاعتراف لهم بالفضل. وغير المشروع أيضا أن يكلفهم ببحوث لا صلة لها بالمادة ولا تخدم أهدافها، بل تخدم أبحاثه التي يضيق وقته عن إنجازها. إنّ هذا السلوك يعدّ سرقة علمية، وهو سلوك يتنافى مع الخلق والفضيلة، ولا يتناسب مع العفة والمروءة !
ونوع رابع من السرقات الأكاديمية شاع وانتشر وعمّت به البلوى حين غاب الوازع الديني في النفوس، ذلك هو المتعلق بانتقاص المحاضرة واختطاف وقتها الذي هو حقّ واجب للطلبة، فترى بعض أعضاء هيئة التدريس يدخل إلى المحاضرة بعد عشر دقائق من وقتها، ويخرج قبل انتهائها بعشر دقائق أخرى! أو يشغل وقت المحاضرة بقضايا لا تنفع الطلبة في دين ولا دنيا يحدّث فيها الطلبة عن بطولاته ورحلاته ومغامراته ! وكثيرا ما يعتذر بعضهم عن محاضراته لأسباب واهية ! اطلعت على محاضرات مادة موعدها يوم الاثنين والأربعاء من كل أسبوع، يعني: بمجموع مقداره اثنان وثلاثون لقاء أو محاضرة في الفصل، وكم كانت دهشتي بل فاجعتي حين علمت أن مجموع المحاضرات التي أعطيت للطلبة اثنتا عشرة محاضرة فقط لا غير !! ... وفي نهاية الشهر يأخذ أولئك المدرسون المعلمون مربو الأجيال رواتبهم كاملة غير منقوصة فهل يأكلونها حلالا طيباً؟ والغريب في الأمر أن هذا النوع من السرقات يستهوي كثيراً من الطلبة فيحبذونه ويفضلونه على أخذ المحاضرات، وتكون فرحتهم عارمة حين يعتذر عضو هيئة التدريس عن محاضرته ! ولم أسمع إلى الآن أنّ طالباً جريئا شجاعاً قال لأستاذه: اتق الله فقد أكلت وقتنا، وانتقصت من محاضرتنا ! ونريد منك تعويضا لمحاضرة غبت عنها ! بل تسمعهم يقولون له بصوت واحد: مسامحينك دنيا وآخرة... ولربما كان بعضهم على استعداد ليسامح بمحاضرات الفصل الدراسي كله ... هذا هو شأن العلم عند كثير من طلبته!
لقد أصبحت العلم ينوح، يشكو أهل الزمان الذين اتخذوه مطية وركوبة يحققون بها أغراضهم ... وأحلامهم ! وأخشى أن تصبح هذه السرقات عرفاً أكاديمياً، ويصبح العلم والجامعات والمؤسسات التعليمية مجرد ديكور أو زينة بلاستيكية ! إنّ هذا الوضع ينبئ عن أزمة حقيقية في التعليم الجامعي تتطلب علاجا ناجعا!
إننا نفتخر بأن التعليم في بلدنا هذا ذو شأن عظيم، ونحرص كل الحرص على الرقي والنهضة به، وهذا السلوك لا يخدمه بل يسيء إليه كل الإساءة، إذ هو غش للوطن وخداع له، نعم هو سلوك شرذمة قليلين، لكن لا بدّ من الحزم وعدم التساهل فيه، فهو من أخطر مظاهر الفساد... ومن الضرورة أن ترتفع قيم الأمانة، وتعلو قيم المروءة وترتقي قيم الفضيلة ليس في نفوس طلبة العلم وسلوكهم فحسب، وإنما في نفوس أساتذتهم كذلك!