بين العلمانية وفصل الدين عن الدولة
خالد الدخيل
06-04-2014 02:09 PM
هناك خلط، بخاصة في الأدبيات الإسلامية، بين العلمانية مفهوماً وفصل الدين عن الدولة بوصفه حالة سياسية قانونية. ما الفرق بين العلمانية وفصل الدين عن الدولة؟ أليست العلمانية في الأخير هي عملية الفصل هذه؟ هذا سؤال منطقي.
قبل محاولة الإجابة عنه هناك سؤال آخر تاريخي عن التجربة الإسلامية، ولا يخرج عن حدود المنطق ذاته: هل عرفت الدول الإسلامية التي جاءت بعد انهيار دولة الخلافة الراشدة فصلاً بين الدين والدولة، أم أن هذه الدول لم تعرف هذا الفصل البتة؟ (تناولت هنا جانباً من الموضوع في مقالة سابقة. (انظر «الحياة» الأحد 23 شباط/ فبراير 2014).
هناك معضلة أمام الإجابة عن هذا السؤال، انطلاقاً من فرضية أن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، والعكس كذلك. فإذا قلنا إجابة عن السؤال إن الدول الإسلامية لم تعرف أي شكل من أشكال الفصل بين الدولة والدين فسيترتب على هذه الإجابة أنه لا يوجد أي فرق من هذه الناحية بين جميع الدول الإسلامية التي عرفها التاريخ، منذ دولة النبوة في المدينة وحتى وقتنا الحاضر. ومعنى هذا أنه لا فرق بين دولة المدينة من ناحية، والدولة الأموية أو العباسية أو السلطنة البويهية... إلى آخره، من ناحية أخرى، وهذا يتعارض رأساً مع المنطق ولا يتفق مع واقع التاريخ أو الواقع الذي كانت عليه هذه الدول.
من ناحية ثانية، لو أجبنا عن السؤال بأن الدول التي جاءت بعد الخلافة الراشدة عرفت حال الفصل بين الدولة والدين، وإن اختلفت درجة الفصل من دولة الى أخرى ومن مرحلة زمنية لأخرى، فإن معنى ذلك أن العلمانية كانت صفة من الصفات التي عرفت بها هذه الدول، وأنه لا فرق بينها من هذه الزاوية، وهذا أيضاً يفارق واقع الحال التي كانت عليه هذه الدول.
الحقيقة أن الدول الإسلامية في مختلف مراحلها التاريخية عرفت الفصل بين الدولة والدين، وإن بدرجات متفاوتة، لكنها لم تكن دولاً علمانية. إن هذه الدول عرفت الفصل أمراً طبيعياً، أولاً لاختلاف الدين عن الدولة، وثانياً لاختلاف المتدين (الذي يؤمن بالدين) عن الدين نفسه، وثالثاً لأن الدين، باعتباره النص المنزل، يختلف عن قراءة هذا النص وتفسيره وتطبيقه، أي أن النص غير قابل لقراءة واحدة محل إجماع، بل هو بطبيعته خاضع لقراءات وتفاسير متعددة ومختلفة باختلاف الجماعة واختلاف الزمان والمكان، ولذلك دائماً ما تنقسم الأديان بعد مرحلة التأسيس إلى تيارات عقدية متعددة ومدارس فقهية مختلفة، وتبعاً لذلك تنشأ الطوائف والمذاهب. وهذا على رغم أن جميع هذه التيارات والمدارس تنطلق من مرجع واحد، هو في الحال الإسلامية القرآن في المقام الأول والأساس، ثم السنة النبوية بعد ذلك.
وبالنسبة إلى اختلاف الدين عن الدولة، فيتمثل في أمر واضح، لكن هناك مقاومة واضحة أيضاً لمواجهته، وفهمه كما هو. وهو أن الدين معني بتهيئة الإنسان للحياة الآخرة وتهذيبه في الحياة الدنيا. الدين حال إيمانية وأخلاقية تعتمد على بُعد غيبي غير قابل للمشاهدة والقياس. تعبّر هذه الحال الإيمانية عن نفسها بشكل أساسي بالعبادة. المعاملة أيضاً تعبير آخر عن الحال ذاتها، بخاصة في جانبها الأخلاقي، لكن صلاحية العمل وقبوله في الدين، سواء كان ذلك عبادة أم معاملة، تشترط النية: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى». والنية أمر غيبي لا يطّلع عليها ويعرف حقيقتها إلا الله وصاحب العمل. وهذا تحديداً ما يؤكد أن الدين في جوهره علاقة مغلقة بين الفرد، وليس الجماعة، وبين ربه، وهي علاقة مغلقة لأنه لا أحد يستطيع الدخول عليها، ومن ثم لا يعرف طبيعة هذه العلاقة وحقيقتها وما يمكن أن تؤدي إليه، لا في الحياة الدنيا ولا في الحياة الآخرة، إلا الله وحده.
أما الدولة، فهي مؤسسة سياسية دنيوية، معنية بشكل حصري بإدارة شؤون الحياة الدنيا للجماعة، وضبط عملية التدافع أو الصراع بين مكونات الجماعة. تنحصر مسؤولية الدولة في تقديم الخدمات وحماية الأمن والحقوق وفرض النظام على الجميع. من هذه الزاوية، تملك الدولة التأثير في حظوظ وفرص ومآلات الفرد أو الجماعة في الحياة الدنيا، لكنها لا تملك أدنى تأثير في مآل أحد في الحياة الآخرة.
لا تملك الدولة مثلاً إعطاء شهادة حسن سيرة وسلوك للإنسان في حال وفاته تشفع له يوم الحساب. من هنا ربما يحق للدولة التدخل في الخيارات الدنيوية للفرد أو الجماعة، وفقاً لمتطلبات أمن المجتمع والالتزام بمقتضيات النظام، لكن ليس من حق الدولة التدخل في خيارات الفرد الدينية، لأنها لا تملك ضوابط ومعايير هذا التدخل، ولأن مثل هذه التدخل لن يؤثر في كل الأحوال في مآله في الآخرة.
أمر هذا المآل يعود إلى الله وحده علام الغيوب، وإذا ما تدخلت الدولة في هذا الشأن لأي سبب كان فهو تدخل دافعه أو هدفه سياسي أو دنيوي بشكل عام، وليس دافعاً أو هدفاً دينياً. بل إن هذا التدخل ربما يصطدم بآيات في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: «لست عليهم بمسيطر». وقوله: «لكم دينكم ولي دين». وقوله: «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». وقوله: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».
نأتي إلى الفرق بين «الدين» و«المتدين»، وهذا واضح وله علاقة بما أشرت إليه من اختلاف النص عن قراءة النص. فالدين الإسلامي مثلاً كونه نصاً منزلاً، بما هو كلام الله في القرآن، هو من ناحية، وبعد دخوله المجال البشري من خلال الوحي، نص مستقل بذاته، مثله في ذلك مثل أي نص آخر. لكن من الواضح أيضاً أن فهم هذا الدين أو النص وتفسيره وتكييفه من المتدين يخضع لصفاته وقدراته البشرية من ذكاء وخيال وحافظة ومصالح وأهواء وميول، كما يخضع لظروف هذا المتدين وما يمكن أن يتعرض له من إكراهات، وما يدخل فيه من علاقات أو تحالفات، وما يعتريه من طموحات أو حالات فقر أو غنى أو مخاوف... إلى آخره. والمعنى السائد، بل المعنى الوحيد للنص لدى المتدين هو المعنى البشري كما تفرضه صفاته وقدراته وظروفه البشرية، وهو معنى تتحدد معالمه واتجاهاته في لحظة زمنية معينة وفي إطار ظروف بعينها، وبالتالي لا يمكن أن يكون هذا الفهم واحداً لدى كل المتدينين في كل زمان ومكان، بل ربما يختلف هذا الفهم بالنسبة إلى المتدين ذاته، تبعاً لاختلاف الزمان والمكان.
والمثال الأشهر في الأدبيات الإسلامية مثال الإمام الشافعي عندما تغيرت رؤيته الفقهية بعد انتقاله من العراق إلى مصر. وهناك أمثلة أخرى، منها ما حصل للسلفية من اختلافات منذ زمن الإمام أحمد بن حنبل وحتى وقتنا الحاضر. هذه الاختلافات بين طبائع الدين والدولة، والنص وقراءة النص، الدين والمتدين، خلقت مسافات بين هذه المفاهيم ومستتبعاتها، لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها، وهذه الاختلافات والمسافات هي التي فرضت وتفرض درجات من فصل الدولة عن الدين في كل الدول الإسلامية التي جاءت بعد الخلافة الراشدة. ولهذا السبب، لم تكن الدولة الإسلامية هي السمة الغالبة للتاريخ الإسلامي، لكن هذه الدول لم تكن، كما أشرت، دولاً علمانية.
ما هي معالم الفصل؟ ولماذا لم تكن علمانية؟
(الحياة اللندنية)