لا أدري من أين جاءت هذه النظرة السلبية والسوداوية للطلاق في مجتمعنا. ولا أدري لماذا ينظر الكثيرون منا ذكوراً وإناثاًـ إلى الطلاق على أنه نهاية الكون، مما يورثهم الإحباط الذي يقود إلى اليأس والكآبة.
ولا أدري لماذا ينظر البعض إلى الطلاق نظرة دونية، رغم أن بعض المطلقين والمطلقات هم من أعظم عظماء التاريخ الذين صنعوا تحولات كبرى في تاريخ البشرية، ولم يعتبر أحد أن ممارستهم للطلاق مثلبة في عظمتهم، تقلل من مكانتهم ومن إسهاماتهم في إحداث التحولات الكبرى في حياة البشرية. ولو كان الطلاق بكل هذا السوء الذي ينظر به البعض إليه، لما شرعه الله عز وجل، الرحيم بعباده، الرؤوف بهم، الذي فتح لهم سبل استمرار الحياة، وخط لهم دروب السعادة فيها، من خلال ما شرعه وأباحه لهم، والطلاق من هذا الشرع المباح.
صحيح إن الطلاق هو أبغض الحلال إلى الله، لكنه ليس حراماً ولا حتى إثماً أو ذنباً، ولا عيباً أو منقصةً. فلو كان الطلاق كذلك لما أحله الله عز وجل، ولما قبله للكثيرات من النساء المؤمنات، اللواتي لعبن أدواراً حاسمة في تاريخ أنبيائه ورسُلِه. بل لما قبل أن تكون زوجات بعض رسله وأصفيائه من المطلقات. وفي تاريخنا عشرات الصحابيات والتابعات اللواتي لعبنَ أدوراً بارزة في حياة الأمة، مجاهدات وراويات للحديث، وفقيهات، وأديبات لامعات كُنَّ مطلقات. بل وإن بعضهن طلقن أكثر من مرة، ولم ينقص الطلاق من مكانتهن، ولا من أدوارهن ولا من احترام المجتمع لهن ولم يكسر إرادتهن وعزيمتهن ورغبتهن في الحياة والنجاح فيها.. بل إن التاريخ يعج بالحالات التي سعى فيها الملوك والسلاطين والخلفاء للزواج من سيدات كنَّ مطلقات، دون أن يثير ذلك استغراب أحد من رعيتهم، ودون أن يعتبر أحد أن ذلك عملٌ شائنٌ. ولو كان الطلاق من الرذائل، لما مارسه الصحابة والتابعون عليهم رضوان الله عز وجل.
غير العرب وغير المسلمين، فإن أمماً كثيرة مارست وتمارس الطلاق. حتى عند أتباع الشرائع التي تحرم الطلاق، يجري التحايل بالكثير من الوسائل لممارسة الطلاق، حتى لو اضطر بعضهم إلى الخروج من دينه، أو التنازل عن عرشه كما فعل إدوارد الثامن ملك بريطانيا، ذلك أنه في الكثير من الحالات يصير الطلاق هو العلاج الوحيد لإستمرار الحياة. ولعل ذلك أحد معاني الحديث النبوي « أن أبغض الحلال عند الله الطلاق»، فبغض الحلال هنا يشبه بغض المريض للدواء. لكنه رغم هذا البغض ورغم مرارة الدواء، فإن المريض يقبل عليه كجزء من إقباله على الحياة، وتعلقه بها، وليستأنفها من جديد سليماً معافى، والمتأمل في فلسفة إباحة الطلاق يجد أنه أبيح الطلاق كعلاج لحالة مرضية تصيب الأسرة، ويصبح الإستمرار معها مستحيلاً قد يقود إلى إستفحال المرض، وتحوله إلى داء عضال ووباء مُعدٍ، لا تقتصر آثاره على الأسرة الصغيرة، بل تمتد لتصيب المجتمع كله، فيأتي الطلاق كعلاج للأسرة وكوقاية للمجتمع مما هو أخطر.من هنا يجب أن ننظر إلى إرتفاع نسبة الطلاق في أي مجتمع على أنها ناقوس خطر يقول أن المجتمع كله صار مريضاً وفي خطر.
بهذا الفهم لمعنى الطلاق، فإنه يصبح بداية جديدة لحياة جديدة لكلا الشريكين في الأسرة التي تضطر إلى اللجوء إلى الطلاق كعلاج. وهو معنى يتعلق بمفهومنا للزواج ابتداءً، فالطلاق ليس صك ملكية وتملك، ولكنه عقد شراكه بين شريكين متكافئين. فإذا كان المسموح به في الشركة الاقتصادية، وغيرها من الشركات أن ينهيها الشركاء، اذا أخل أحدهم بشروطها، أو إذا إكتشف الشركاء أنها لم تعد مجدية، فما بالك في شركة راس مالها حياة الإنسان ووجوده، احتمال خسارتهما، أو تحولهما إلى قطعة من الجحيم، ألا يكون من حق الإنسان عندها أن يفك هذه الشراكة، ليبحث عن بداية جديدة؟ فكم من شركاء اقتصاديين حققوا نجاحات مذهلة بعد أن فكوا شراكاتهم الأولى، ودخلوا في غيرها. وبالمثل، كم من أسر سعيدة بناها مطلقون أو مطلقات بعد أن استفادوا من تجربتهم الأولى، وبعد أن أنقذهم الطلاق من شريك خائن، أو بخيل، أو مهزوز، أو مغرور، أو عديم الثقة بنفسه أو بغيره أو أناني، أو بسبب غياب الإنسجام والتكافؤ النفسي والجسدي مع الآخر، فاستبدلهم الله بمن هو خير منه.
خلاصة القول: إن نظرتنا إلى الطلاق ترتبط بدرجة وعينا الاجتماعي والحضاري. وعندما نكون على درجة كافية من الوعي، سنكتشف أن الطلاق ليس عيباً كما ينظر إليه البعض، فيجبرون بناتهم أو حتى أبناءهم على الاستمرار في علاقة زوجية، يعلمون علم اليقين أنها مستحيلة، أو أنها قد تقود إلى ما حرم الله، فيرضون ضمناً بالإثم ولا يرضون بالطلاق، دفاعاً عن سمعة « العائلة « كما يزعمون.
ومثلما أن الطلاق ليس عيباً فإنه كذلك ليس إثماً أو نهاية الحياة.. بل علاج لا يجوز اللجوء إليه إلا عند الضرورة. ويجب أن ننظر إليه على أنه طريق للشفاء، وبداية لحياة جديدة مليئة بالأمل والتفاؤل. هكذا تقول تجارب الناجحين في الحياة. وهكذا كان يوم كنا نفهم حضارتنا، ونعي أحكام ديننا، وبهذا الفهم المتقدم والوعي الناضج قدنا البشرية، وكنا شركاء فاعلين في بناء الحضارة الإنسانية.
(الرأي)