ليس شخصا عاديا أبدا ذاك الرجل الذي يعيش منفيا في بنسلفانيا، والعلامة فتح الله غولن لم يكن عابرا في تاريخ تركيا المعاصرة، إذ على يده تأثر الملايين بدينهم، فوق ما لحركته أي «حركة الخدمة» من مئات المدارس والجامعات الخاصة في تركيا والعالم.
للحركة شبكة ثقافية واجتماعية وإنسانية واسعة في كل مكان، تم بناؤها على مدى اكثر من خمسين عاما، فوق امبراطورية اعلامية، ولا تقدم الحركة نفسها باعتبارها حزبا سياسيا، غير ان سرها في اتباعها في كل مكان.
كان واعظا بداية حياته، واسلوبه مؤثر جدا، تعرَّض الى السجن والاعتقالات، وقد اعتمد في وعظه على اللطف والحسنى، حتى ذاع صيته، وصار له اتباع بالملايين، وحركة الخدمة التي يتزعمها تقوم على فكرة الوئام داخل كل مجتمع، واحياء الدين بطريقة لطيفة ورقيقة في قلوب الناس فوق جعل الدين وسيلة للتطوع والعمل الخيري وتعليم الناس.
المساجد في تركيا مختلفة عن العالم العربي، وفي احد المساجد التي تشرف عليها حركة الخدمة مجمع كامل، مدراس دينية، لتعليم الشريعة، والتأهيل لدخول الجامعات، وفقا للنظام الأكاديمي التركي، ومنامات للطلبة، ويغطي الأغنياء في تركيا كل الكلف، فالمسجد ليس مكانا للصلاة فحسب.
الأمر يمتد الى جامعات ومدارس زرناها، ويغطي الأغنياء كل كلف التعليم لعشرات آلاف الطلبة سنويا، وتُقدم لهم منح كاملة، ويُؤمن لهم المأكل والمشرب والتعليم وحتى المصروف الشخصي للطالب، فقد بنى غولن شخصية مئات الآلاف في تركيا، على المستوى الديني والدنيوي.
لم تنجح الخدمة لولا عشرات آلاف رجال الأعمال الاتراك الذين يموِّلون هذه الحركة ومشاريعها، جراء تأثرها بفتح الله غولن، الذي يعد مجددا عظيما في تركيا والعالم.
امامي في اسطنبول عشرات الفلل الفخمة التي قدَّمها اثرياء تطوعا لوجه لله عز وجل، من اجل مشاريع الخدمة، التي تقدر قيمتها مع ممتلكاتها بعشرات مليارات الدولارات، فهذه شجرة نمت وكبرت باسم الله.
عبقرية غولن لا تنبع من حركته الممتدة، ولا من مؤلفاته فقط، بل من انه ساهم بإحياء روح الاسلام في نفوس ملايين الاتراك، وجعل للدين قيمة تتجاوز المظاهر نحو الحفر عميقا في الاتراك وذهنيتهم ووجدانهم.
رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان المتحالف سابقا مع غولن يناشد الأخير العودة من منفاه في بنسلفانيا، قبل عامين، وهو قد تأثر به شخصيا، لكنك اليوم تأسف إذ ترى الوعيد والتهديد من جانب ارودغان لحركة الخدمة، والتنابز بالكلام السياسي الذي اقله وصف اردوغان لـ»غولن» بذاك الجالس في بنسلفيانيا، غمزا من قناته لوجوده في الولايات المتحدة.
اختلف الاسلاميون في تركيا الى فريقين، بعد تحالف طويل، واردوغان يتهم غولن وجماعته الممتدة وفقا لتعبيره في القضاء والأمن وكل مكان، وأنها دولة داخل الدولة بكونها تسعى للإطاحة بأردوغان بعد خلافات على ما تراه الخدمة تراجعا في الحريات العامة في تركيا، وقمعا للأتراك من جانب حزب العدالة.
تلويحات اردوغان تبدأ بإغلاق المدارس الدينية وتصل حد التهديد بإخراج الخصوم من جحورهم في خطابه الأخير.
لا أحد ينكر -بالطبع- أن اردوغان يتعرَّض لحملة غير مسبوقة، وانه تحت مطارق تشويه السمعة، غير ان كل ما يخشاه المراقبون ان تسعى «اليد الثالثة» في تركيا للإيقاع كليا بين «حزب العدالة» و»حركة الخدمة» بحيث ينفجر الصراع باعتباره صراعا بين تيارات اسلامية، فيما تحركه فعليا قوى اخرى، والفاتورة قد يراد تنزيلها على سمعة الاسلاميين عموما.
حركة الخدمة تنفي تماما كل اتهامات اردوغان بكونها تسعى للإساءة اليه، أو انها وراء التجسس عليه، او تسريب ملف او قصة، من هنا أو هناك.
انفجار الصراع بين «حزب العدالة» و»حركة الخدمة»، كلفته مرتفعة، والخاسر الوحيد هو الإسلام بمؤسساته في تركيا، ولا أحد يعرف ما إذا كان هناك مكان للمراجعة بين الطرفين، غير أن المؤكد أنه ليس من حق أردوغان وحزبه انتقاص حركة الخدمة، وتسفيه تاريخها، كما ليس من حق حركة الخدمة عدم التنبُّه الى كلفة الاعتراض السياسي على حزب العدالة الذي له يد ازدهار واستقرار في تركيا؟!.
كلا الأمرين يصبَّان في صالح «اليد الثالثة» في تركيا، التي لا تريد رؤية أي أحد من الفريقين، وهي يد لا تستسلم ببساطة لرؤية الخليفة وقد عاد الى قيد الحياة، ويراد له أن يعود الى ضريحه قهرا!.
(الدستور)