بحثت عن أحمد سعيد على «غوغل» فلم أجد له أثرا. هناك كثيرون يحملون الاسم لكن أحدا منهم ليس الرجل الذي أعنيه. نحن، أحمد سعيدنا، هو صاحب الصوت العظيم في «صوت العرب» الذي كان يُسقط 83 طائرة إسرائيلية كل ثلاث دقائق صباح 5 يونيو (حزيران) 1967، ثم اختفى عن السمع، إلى أن ظهر لي شخصيا عام 1983 وأنا في مكتبي في «الأنباء». كان يريد استخدام الأرشيف بحثا عن مادة تفيده في مزرعته في مصر.
كانت السن قد تقدمت بالرجل. وبدا هادئا وربما مستكينا في طقم رمادي، ربما محلي الصنع. وربطة عنق تؤكد التأدب، لكنها تنفي الأناقة نفيا قاطعا. ذكّرني رمز الضوضاء العربية بقصيدة كمال ناصر التي مطلعها:
جاءنا رجل من فاراب.. أضحكنا.. ثم أبكانا.. ثم غاب
نظر الكثيرون من المفكرين والباحثين والصادقين إلى أحمد سعيد على أنه كان شريكا في الهزيمة، وربما كان سببا من أسبابها. وأعتقد أن الربح والهزيمة مناخ عام، لا فردا. مشكلة أحمد سعيد الكبرى أنه كان صادقا، لدرجة أنه لا يعرف مدى الضرر الذي يُحدِثه ما يقول. لم تكن الحقيقة تعنيه أو تشكّل فرقا عنده، لأنها اختلطت عليه. لم يكن يشعر أنه يكذب أو يفتري مثل غوبلز، بل كان يحلم ويتحمّس. وفي النهاية ذهب إلى مزرعة ينسى فيها أحلام وآلام الأمل والهزيمة.
يعود إلي منظر أحمد سعيد داخلا إلى مكتبي بعد ظهر يوم عطلة بطيء وممل، ليس له مطلب سوى البحث عن تطورات العمل الزراعي في الأرشيف، يعود إلي المشهد كلما وقعت، عرضا، على صاحب صوت عال يتحدث في برنامج تلفزيوني، وهو يتربع فوق الجثث ويدوس في عيون الأطفال، ويمدد جزمته على صدور الأمهات، ويرمي حذاءه على جبين الآباء والمسنين. سقى الله عصر أحمد سعيد، صائحا في «صوت العرب»، ومنعزلا في مزرعته، فلم يكن يفرش الإبر في عيون الأمّهات.
لا أعرف بأي لغة يتحدث هؤلاء السادة؟ طبعا، حروفها عربية. ونبرتها مُضريّة. لكن أحمد سعيد لم يكن ثقيل الظل. ولم يكن ينقض في السطر التالي ما قاله في السطر الأسبق. ولم يكن يهدد سامعيه أو محاوريه بالقتل. وكان جزءا من مصر لا طارئا عليها.
كانت إذاعة أحمد سعيد صوتا بلا صورة. ولم نسمع صوته مرة يرافق صور جثث الأطفال في أكياس النايلون. وكنّا نعتقد بعد الهزيمة أننا سوف نفيق، وندخل العصر الآيل إلى التفوق والكفاية، وإزالة بيوت الطوب ومجتمعات الطين، وسوف يصبح مثالنا منافسة أوروبا لا تقليد كوريا الشمالية. وكنا نحلم بأنظمة تحفظ كرامة شعوبنا، وتحرص على هنائها وتسهر على أمنها، وتحرس كل ساعة من ساعات مستقبلها، فإذا بنا أمام كابوس موت وخراب بلا نهاية. وإذا بالجميع، خفية وعلنا، يترحمون على أيامك يا أحمد يا صاحب السعادة.
(الشرق الأوسط)