فيدل كاسترو .. تاريخ وسيرة تروى!
محمد خروب
20-02-2008 02:00 AM
وضع فيدل كاسترو بيده - لا بيد غورباتشوف او يلتسين آخر - نهاية لحقبة قاربت نصف قرن من صنع القرار وكتابة التاريخ والانخراط اليومي في الحياة، حياة الكوبيين وفي داخل المشهد الدولي على حد سواء..خرج الرجل من القصر الذي لم يكن بالنسبة اليه سوى مأوى يسكن فيه ويستقبل قادة الدول الاجنبية ووفود التضامن الدولية، التي تأتي الى هافانا الوديعة الجالسة في حضن اليانكي وراعي البقر، الكابوي الذي يروع الهنود الحمر ويروض الجواميس ويسحب بحباله رقاب المتمردين عليه في صحراء نيفادا، كما في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، حيث شركة الفواكه المتحدة (الاميركية طبعاً)، تقرر اسم الرئيس او الحزب أو الطغمة الحاكمة (الفاسدة دائماً)، التي تحكم هذا البلد الاميركي اللاتيني، أم ذلك، ولم تكن كوبا الديكتاتور باتيسيتا استثناء، بل انها (شركة الفواكه) حاولت ايضا احتواء نظام (حركة 26 يوليو)، التي انشأها كاسترو قبل اطاحة الديكتاتور، لكنها (ودائماً شركة الفواكه) فشلت وتم شطبها بالتأميم من المشهد الكوبي.
يغادر فيدل كاسترو الحكم طواعية، بعد ان هده المرض واجبره على البقاء نزيل المشفى، بسبب من عملية جراحية دقيقة في الامعاء وحبيس المصح للنقاهة وترميم ما تبقى من جسد منهك، لم تنهكه الشهوات والمغامرات العاطفية، فقد كان الرجل زاهداً ومتقشفاً، لا يهجس بغير الثورة والبناء وتثوير الجماهير وحثها على البقاء يقظة ومتحفزة لمواجهة التهديدات الخارجية، وخصوصاً الاميركية، بل هي الاميركية فقط، لأن لا أحد في العالم حتى اولئك الذين لا يلتقون مع فكر كاسترو ونهجه الاشتراكي ومسيرة الثورة الدائمة التي واصلها بدأب وصبر وحماسة، لم يشاركوا واشنطن قرارها في محاصرة كوبا وابقاء سيف العقوبات والحملات السياسية والدبلوماسية وخصوصا الاعلامية مسلطا على رقبة نظام كاسترو، بل ان كثيرين من حلفاء الولايات المتحدة في اوروبا ادانوا المحاولات التي واصلتها الادارات الاميركية المتعاقبة منذ العام 1962 (عام الحصار الذي لم يرفع حتى الآن) لاغتيال فيدل كاسترو وتجريد عمليات الغزو العسكرية بقيادة كوبيين منفيين ومنشقين على نظام كاسترو ومعظمهم من المهربين وتجار الحشيش وخاطفي الطائرات والقتلة، الذين سلحتهم وكالة المخابرات المركزية الأميركية بهدف التخلص من كاسترو ونظامه الذي شكّل وما يزال شوكة في حلق واشنطن واحلامها الامبراطورية، وبخاصة بعد ان نجح كاسترو في تجسيد الانموذج اللاتيني لقوى اليسار والاشتراكية في اميركا اللاتينية التي نجحت في العقد الاخير في الوصول الى الحكم بطرق شرعية وديمقراطية، بعد ان وضعت السلاح جانبا والتزمت قواعد اللعبة الديمقراطية التي احتكرت واشنطن فكرتها وأنكرت على اليسار والاشتراكيين امكانية قبولهم بهما.. لان لا قواعد شعبية لهم ولا قدرة لهم على التعاطي مع الجماهير الا بالاوامرية والزجر والاكراه كما تقول الدعاية الاميركية المفبركة.
استسلم كاسترو لخيانة جسده المنهك وتنحى جانبا في اطمئنان الى ان احدا في الحزب الذي تركه او القيادة المؤقتة التي تولت تسيير دفة الحكم اثناء وجوده في المشفى، لن تقدم على خيانة الثورة والانقلاب على الخيار الاشتراكي الذي ارساه في تلك الجزيرة التي تنام وتصحو تحت رادارات البوارج الاميركية وكاميرات اقمارها الصناعية واجهزة تنصت قاعدة غوانتنامو التي استأجرتها الولايات المتحدة من أحد أبشع انظمة الحكم الفاسدة التي حكمت كوبا، لمدة 99 عاما قابلة للتجديد، هذه القاعدة/السجن التي باتت وصمة عار في تاريخ الديمقراطية الاميركية بعد ان حولتها الى مكان لتعذيب السجناء ومعاملتهم بقسوة وعدم الاعتراف بأبسط حقوق انسانية لهم، وفي مقدمتها الحق بالمحاكمة العادلة..
غادر كاسترو الحكم ولم يغادر الدنيا بعد، وان كانت المسألة مجرد وقت، بعد ان تجاوز الرجل الاسطورة الذي يكاد يعرفه كل انسان على سطح المعمورة.. العقد الثامن من عمره وبعد ان رضخ لاستحقاق الجسد والعمر، رغم انه لم يرضخ لهذه المعادلة الا مضطراً، ورغم ان كتاب استقالته ينطوي على رغبة دفينة او ثقة بأن الكوبيين لن يقبلوا تنحيه عن الحكم عندما قال (.. اكتب اليكم لأقول انني لا اتطلع ولن اقبل وأكرر لا اتطلع ولن اقبل مَنْصِبَيْ رئاسة المجلس ورئاسة اركان الجيش).
سيقال ويكتب الكثير عن كاسترو المستقيل وكاسترو بعد ان يرحل عن دنيانا، وقد تسارع ادارة بوش الى نعي كاسترو سلفاً وتشويه فترة حكمه وان كانت ستقول ان الوقت قد حان لمن يخلفه بأن يعيد كوبا الى الديمقراطية وأن يمنح الكوبيين الحرية وحق الاختيار.. وهو رد متوقع ومنسجم مع ما مثلته وتمثله الولايات المتحدة من نموذج للهيمنة والغطرسة والاستعلاء..
كما سيخرج علينا كثيرون حتى من اوساط اليسار وخصوصاً الذين اداروا ظهورهم لكل ما هو يساري واشتراكي ووجدوا في انتصار المعسكر الرأسمالي فرصة لمغادرة مواقعهم، يعيبون على كاسترو ديكتاتوريته وبقاءه في الحكم طول هذه المدة التي سجل فيها رقماً قياسياً، استحق بموجبه لقب عميد حكام العالم الذي عاصر تسعة رؤساء اميركيين.
بعض ما سيقوله خصوم كاسترو لا تنقصه الحقيقة، ولم يكن انتخاب رئيس آخر غير كاسترو لحكم كوبا او التربع على زعامة الحزب وشخصية ثالثة لقيادة الجيش، ليغير كثيراً في مستقبل كوبا او ابتعاداً عن خيارها السياسي وخصوصاً الاقتصادي والاجتماعي.. لكن الأمور انتهت الان.
يمكن التعلل بالامل، بأن خليفته الاوفر حظاً راؤول كاسترو (الذي هو شقيقه والمتقدم في السن ولكن ايضاً هو الذي اسس الجيش الكوبي ومخطط الاصلاحات الاقتصادية في كوبا بعد انهيار المعسكر الاشتراكي والأهم من ذلك كله ان احد قادة الثورة التي اطاحت بالديكتاتور باتيستا) سيتوفر على وقت الآن لاعادة قراءة المشهد الكوبي من كافة جوانبه، واتخاذ ما يلزم من اجراءات واصلاحات تشريعية تسمح بتجديد دم الحكم وتجنيبه الهزات السياسية وحال عدم الاستقرار والفوضى، التي تتربع الولايات المتحدة واجهزتها المتخصصة، في اثارتها وتأجيجها وخصوصاً في المراحل الانتقالية التي تمر بها دول معينة كالمرحلة الراهنة التي تعبرها كوبا بعد تنحي الزعيم..
kharroub@jpf.com.jo