التجارة والرخص الأكاديمية
د.زياد خليل الدغامين
01-04-2014 01:15 PM
هل العلم رسالة أم مادة للتجارة؟ ما الفرق بين أن يذهب شخص إلى دائرة الترخيص للحصول على "رخصة عمومي" من أجل العمل لتحصيل لقمة العيش، وبين شخص يذهب إلى الجامعة للحصول على شهادة بكالوريوس من أجل لقمة العيش كذلك؟ هل تتساوى الرخصتان في الواقع مع اشتراكهما في الهدف؟ كلا، فالعلم رسالة ينقلها جيل عن جيل، وهي فريضة تشكل إحدى مقومات الشخصية للفرد المسلم، وهو عماد نهضة الأمة ورقيها.
إنّ الواقع اليوم يشهد أنّ العلم قد أصبح وسيلة من وسائل التجارة، وأنّ الشهادة الجامعية قد انحرفت عن مقصدها بوصفها رسالة، واتجهت لتتساوى مع سائر الرخص المهنية والتجارية بجامع الاشتراك في طلب العيش وتحصيل الرزق، وتحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي، والترقي في السلم الوظيفي، ولذلك أصبح يقبل على طلب العلم من ليس أهلاً له، فترى الطالب مهملاً لا يحمل كتابا ولا قرطاسا طول الفصل، وأقسم لي بعضهم أنه قضى أربع سنوات في الجامعة وتخرج ولم يدخل مكتبتها العامة، ولا تجد الطالب يبذل الجهد اللازم لتحصيل هذه الشهادة، ولا مانع لدى بعضهم من الحصول عليها بالغش، أو بالوساطات، أو بالشراء إن استطاع أن يشتريها، أو بتوكيل من يقدم عنه الامتحانات، أو بغيرها من الأساليب فالغاية تبرر الوسيلة!
وفي ضوء هذا الواقع ترى العلم يترنح داخل الجامعات وعلى أعتابها وأبوابها ! فمثل هؤلاء هم طلاب رخص عمل لا طلاب علم، وبعد التخرج سيضطر الوطن إلى حمل هؤلاء فيثقل بهم ويئن، فهم لا يفكرون بحمله ولا إعلائه!
أما في المراحل الجامعية العليا – الماجستير والدكتوراه – فقد أخذ البعد التجاري يظهر لكل مطلع أو منخرط في تدريس هذه المستويات، حين يتحوّل العلم فيها إلى مادة للتجارة والتكسب، فهناك من يحاول أن يشتري رسالة علمية أو يستأجر من يكتب له تلك الرسالة، يدفع مبلغاً من المال ليعوضه مستقبلاً من خلال ترقّيه في وظيفة يحصل عليها من غير استحقاق ولا جدارة. اتصلت بي طالبة يوما وذكرت أنه أعياها البحث عن رقم هاتفي، إلى أن عثرت عليه أخيراُ، فقلت لها: ماذا تريدين بعد هذا العناء في تحصيل رقم هاتفي؟ فإذا هي تذكر أنها طالبة ماجستير وأنها مدرسة وأنها أم لأطفال وأنها...، والخلاصة أنها تعرض علي أن أكتب لها الرسالة مقابل – الذي أطلبه من مال – فوقع كلامها عليّ وقع الصاعقة، فقلت لها: معاذ الله! كيف تطلبين مثل هذا الطلب؟ وكيف تقبلين على نفسك أن تحصلي على الشهادة بالزور والبهتان؟ يا أختاه، أعرض عليك عرضا آخر: اكتبي أنت الرسالة، وسأقرأ لك لوجه الله تعالى، وأوجهك الوجهة الصحيحة في البحث لا أريد منك جزاء ولا شكوراً، وهذا بريدي الإلكتروني أرسلي لي ما تكتبين فصلاً فصلاً. ثم انقطع الاتصال إلى غير رجعة. وأجزم أنها بحثت عن شخص يكتب لها. ولدهشتي أخبرت بعض الأساتذة الفضلاء بالقصة فأخبروني أنّ هذا مما عمّت به البلوى!! هكذا يتحوّل العلم إلى تجارة وبيع وشراء.
وذهب بعض الأفاضل من أساتذة الجامعات إلى مكتبة يصوّر أوراقاً، فقال لمدير المكتبة: هل تحتاجون إلى طابع ماهر يساعدكم في طباعة رسائل الماجستير والدكتوراه؟ فقال: لا، لا نحتاج إلى طابع، ولكننا نحتاج إلى من يكتب رسائل ماجستير ودكتوراه، فإن عرفت شخصاً فدلنا عليه ! أجل هناك باحثون مرتزقة يتاجرون بالعلم دون إحساس بشيء من وخز الضمير أو وازع الدين! وسيجتاز الطالب المرحلة ويحصل على الدرجة ما لم تكن هناك مناقشة علمية جادّة لتلك الرسالة تظهر مبلغ الضحالة العلمية والضآلة المعرفية لأصحابها!
أما على صعيد العمل الأكاديمي الخاص بأعضاء هيئة التدريس فلم يسلم هو الآخر من المتاجرة بالعلم، فالجامعات تشترط لترقية عضو هيئة التدريس فيها عدداً معيناً من البحوث، من أجل أن ينقل إلى رتبة علمية أو يترقى إلى رتبة أعلى، ومن ملوثات هذه الترقيات أنّها ترتبط بمكافآت مادية تنزلق إلى الراتب الشهري، ومناصب إدارية تكون مغنماً لا مغرماً، وعليه، فلا مانع لدى بعضهم من سرقة بحوث علمية للوصول إلى مراده، بل لا مانع لدى بعضهم من شراء بحوث علمية، ولا مانع لدى بعضهم من استئجار كتبة يكتبون لهم بحوثاً علمية! للوصول إلى زيادة في الراتب أو الترقي في السلم الوظيفي. سأل بعض الأساتذة زميلاّ له بقوله: أما زلت تتعب نفسك بكتابة البحوث وقد حصلت على الأستاذية؟ يقول ذلك منكراً، فالبحوث في نظره وسيلة للوصول إلى أعلى رتبة وأعلى راتب فحسب!
حتى نشر البحوث العلمية تحوّل إلى تجارة ووسيلة ربح تدر المال على المترزقين، فبعض المجلات - المزعوم أنها محكمة- لا تنشر أي بحث - ولو تضمن حقائق علمية جادّة - إلا أن يرسل صاحب البحث مبلغاً من المال لتلك المجلة لتقدّم له خدمة النشر، فيرسل بحثه مع مبلغ من المال، فيأتيه البحث منشورا خلال شهر من الزمان وربما أقل من ذلك ! بلا تحكيم ولا تقارير علمية!
وفي تحكيم البحوث العلمية ترى أثر التجارة واضحاً، فقد يكون البحث منحولاً، ولا يتنبه المحكم لذلك، وإذا كتب تقريراً فبكلمات يسيرة يبارك للباحث جهده دون قراءة فاحصة، ليضمن أن ترسل له المجلة بحوثا أخرى ! وأصبح الاتجاه في التعامل مع تحكيم البحوث أنّهم – بعض رؤساء التحرير- إن أردوا قبول البحث ورضوا عن صاحبه أرسلوا بحثه إلى التاجر فلان المتساهل، وإن أرادوا غير ذلك أرسلوه إلى فاحص جاد، ومحكم خبير!
كذلك في مناقشات رسائل الماجستير والدكتوراه يتجمع عند بعض الأساتذة مناقشات لخمس رسائل في أجواء الامتحانات النهائية، ولو زدته خمساً أخرى لوجدته مبتسما مرحبا دون أن يبدي أي اعتراض، بل يشكرك شكراً جزيلاً ويعدّه معروفا لا ينساه صنعته من أجله ! فيأخذ هذه الرسائل يعطيها إلى زملائه أو طلابه يضعون عليها ملاحظاتهم! إنها تجارة ! ثم ما معنى أن يناقش عضو هيئة تدريس رسالة علمية في غير تخصصه غير البعد التجاري !
... إنّ العلم رسالة، والعلم أمانة، والعلم كرامة، والعلم شهادة، والعلم قيم وحضارة، والعلم رقي ونهضة، والعلم تطور وارتقاء، ... والعلم حب للوطن وإخلاص له، فكيف يهان بهذه الطرق الخسيسة ! وكيف يكون بضاعة رخيصة، ومطية لجمع المال ! كيف يكون تجارة ؟ وكيف يكون سبيلاً لدرجات علمية وترقيات غير مشروعة ! وسلماً لمناصب إدارية وترقيات وظيفية ! أهكذا تُخدم الأوطان ! هذه هي النتيجة حين ينفصل العلم عن الدين والأخلاق!