خلال سنوات وعقود كانت صورة أجهزة الأمن السورية في أذهان المتعاملين معها أو من يسمعون عنها صورة مرعبة، فالحكايات عن أشخاص دخلوا المعتقلات ولم يخرجوا كثيرة جداً، وأشخاص لا ندري أعدادهم دخلوا وقضوا سنوات طويلة دون أن يوجه لهم سؤال واحد، وآخرين دخلوا وعلى أبواب المعتقلات تم صرف أسماء جديدة لهم فضاعت أسماؤهم القديمة وتبددت معها محاولات البحث عنهم، وآخرين تم اعتقالهم على الحدود لتشابه أسماء وتلقوا التعذيب بأنواعه أياماً وشهوراً وسنوات، والمحظوظ من تم اكتشاف المطلوب الحقيقي، وآخرين دفعوا ثمن تشابه ترتيب الحروف مع حروف مطلوبين.
كانت صورة أجهزة الأمن السورية مرعبة، وكثيرون حتى في بلادنا أحجموا عن زيارة سوريا خوفاً من اعتقال لعلاقة مع تنظيم محظور في سوريا، أو مقال كتبه، أو خوفاً من موقف أو حتى حمل اسم ذات العائلة لشخص مطلوب ولو قبل سنوات وعقود.
لكن الأزمة السورية الحالية كشفت أن تلك الصورة المرعبة تخص الأشخاص والجهات الذين يقعون تحت أيدي الأمن السوري، لكن دخول عشرات الآلاف من المقاتلين من خارج سوريا إلى داخلها، وكميات الأسلحة، وعمليات بناء التنظيمات والميليشيات أشارت كلها إلى خلل كبير، فقد يكون مفهوماً أن تدخل خلية أو مجموعة عناصر أو شحنة أسلحة، لكن الاستباحة لكل الأرض السورية من قبل دول وتنظيمات أمر يشير إلى خلل بنيوي، ويؤكد أن الأمن الحقيقي ليس أمن الاعتقال والتعذيب والتوقيف على الشبهات بل أمن الوقاية والجهد المنظم لحماية الجغرافيا، وحماية جسد الدولة من الاختراقات الأمنية التي تعمل على اقتطاع جزء من الأرض أو الناس ليكونوا خارج القانون والسلطة.
كان الاعتقاد أن الأمن السوري قوي ولا تخفى عليه خافية، لكن الأزمة الأخيرة فتحت الباب أمام تساؤلات عن هذه القوة، فأن يدخل البلاد شخص مشتبه فيه أمر يمكن تداركه، لكن ماذا عن دخول تنظيمات ومقاتلين بالآلاف، ثم ما تبعها من أجهزة وأموال، بل واقتطاع مساحات من الأرض السورية خارج سيطرة الدولة.
لن اختزل الأزمة بهذا الجانب لكنه جانب هام، كما نعلم جميعاً أن هناك عمليات اختراق تمت للتنظيمات هناك وتسويات وغيرها، لكن الخوف والرعب الذي كان من الأمن السوري لا ينسجم مع ما جرى من اختراقات لساحاتها وتصدير تنظيمات وأسلحة وأموال وتحويل سوريا إلى ساحة حرب إقليمية.
الأمن الذكي ليس بالضرورة أن يرافقه رعب وقمع، وقوة الأمن وأجهزته تظهر في حماية الدولة في مراحل الأزمات والاستهداف واشتعال النيران، والقوة ليست في إرهاب من هو في قبضتك بل من هو خارجها ويعمل لاستهدافك.
تثبت الأحداث أن الرعب وزراعة الخوف ليسا مقياساً لقوة الأمن بل الذكاء والسيطرة على المفاصل وترتيب الأولويات الأمنية والعسكرية ونقاء الأجهزة من ضعاف النفوس ومشاريع متلقي الرشاوى أو بائعي الحدود.
أعلم أن حجم الأزمة كبير، وأنها حكاية دولية، لكن القياس بين الصورة السابقة وما جرى من تفكيك لأمن سوريا أمر يستحق الدراسة، وهو درس للجميع من دروس الأزمة السورية وتداعياتها.
(الرأي)