تسع دقائق.
لا دماء، لا دموع، لا صراخ، لا خطابات.
تسع دقائق من مشاهد عادية كانت أكثر بلاغة وإصابة للمعنى من مطولات سمعية بصرية كثيرة ساهمت، من دون قصد، ربما في تحويل المأساة السورية إلى حكاية رتيبة لم تعد تثير في متابعها سوى الرغبة في إشاحة البصر، والتحول نحو شأن آخر. تسع دقائق روت بضعا من يوميات هالة المستجدة منذ أكثر من عام، وكيف تعيش في خيمة للاجئين السوريين في البقاع اللبناني. وهالة هذه، التي تُوصَف بأنها أصغر أمّ في مخيم اللاجئين في البقاع، هي طفلة سورية عمرها 11 عاما، نزحت مع إخوتها الخمسة، بعد أن قُتلت أمها في قصف على منزلها بسوريا، وبعد أن فُقد أي أثر لوالدها. شقيقها الأكبر أصيب بصرع نتيجة الصدمة، وأشقاؤها الآخرون ما زالوا صغارا. من حمل قصة هالة إلى العالم النجمة أنجلينا جولي، فالدقائق التسع هي خلاصة الزيارة التي قامت بها أنجلينا إلى هالة، ناقلة لنا حكايتها بتفاصيلها الصغيرة، وابتسامات هذه الفتاة، ولهفتها على شقيقها حين ألمت به دوخة، فعاجلته بالدواء.. دقائق تخللها تعثر لطيف في السؤال والجواب بين الأطفال الذين لا يجيدون الإنجليزية وأنجلينا التي حاولت جاهدة التقاط المعنى من تعابيرهم، قبل أن يوضحها المترجم.
صوت أنجلينا الهادئ روى الحكاية، ونقل الحقائق الأفظع عن حجم مشكلة اللاجئين السوريين، خصوصا الأطفال والنساء، ونقل أيضا المأزق الكبير في لبنان الذي يعجز عن استيعاب حجم نازحين بات يضاهي نسبة ربع سكانه.
أتى شريط هالة في وقت تصاعد فيه الجدل في لبنان حول ملف اللاجئين، فبرز خطاب سياسي وشعبي أحيانا قارب المأساة من زاوية ضيق محلي لامس العنصرية، مما استدعى حملة مناهضة لهذا الخطاب.
أتت تلك الدقائق التسع التي صورتها أنجلينا جولي وبثتها قنوات عالمية، فبدت الصورة الأصدق لأزمة النازحين ومأزق لبنان معا. لم يستفد السياسيون اللبنانيون من قدرة جولي على النفاذ نحو شرائح رأي عام واسعة، فهم انشغلوا بالتأنق وبالتقاط الصور معها، غافلين عن المعنى الحقيقي الذي كان بإمكانهم الاستفادة منه بشأن قضية اللاجئين السوريين.
قبل مدة، كتب «جيريمي بارتيل»، وهو مسؤول الإعلام في منظمة «Mercy» الإنسانية، مقالا عنونه «لماذا سوريا بحاجة إلى جورج كلوني»، النجم العالمي الذي يهتم بقضايا إنسانية مثل أنجلينا جولي، والذي لعب دورا في تسليط الضوء على معاناة لاجئي دارفور في جنوب السودان.
لقد أصيب الرأي العام الغربي بالضيق والارتباك والضجر حيال الوضع السوري، وهو لا يفهم تعقيدات الأمر، ولا أحد يرى أفقا قريبا لحله. وحين يشيح الرأي العام، خصوصا في الغرب بوجهه، يرتاح السياسيون وصنّاع الرأي من الضغط باتجاه حلول لقضايا من نوع الوضع السوري.
وهنا، يبدو أننا فعلا بحاجة إلى جولي وكلوني لا للتسويق والتسليع، ولكن لتقديم زاوية مقاربة جديدة تعيد الاهتمام إلى هذه المأساة. لقد ثبت في الغرب فعالية الضغط الذي يمكن لتحالف بعض المشاهير والمنظمات المدنية والصحافة أن يحققوه. وهنا، مخاطبة الغرب مسألة جوهرية، ذاك أن الحلول بيد حكومات الغرب ومؤسساته قبل أن تكون بيدنا. هناك عواصم صنع القرار، وهناك الأمم المتحدة، وهناك عشرات من المنظمات الدولية العاملة في الإغاثة.
الدقائق التسع لأنجلينا جولي أكثر نفاذا من الخطابات الخشبية التي تحاصر اللاجئين السوريين، والتي توظف قضيتهم في سياقات نزاعية لا طائل منها.
(الشرق الأوسط)