سيف "الكريم" عاد إلى غمده؛ ماذا بعد؟
د.حسام العتوم
26-03-2014 01:42 PM
مع عودة شبه جزيرة "القرم" أو "الكريم" ذات الحكم الذاتي الجمهوري إلى بيتها الأصيل بعد التحامها من جديد مع الفدرالية الروسية وبطريقة ديمقراطية متدرجة قادها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بذكاء وهدوء وجرأة وكاريزما فولاذية رغم هيجان الغرب الأمريكي تكون روسيا ضمنت وإلى الأبد سلامة أسطولها الحربي ذو الموقع الجيواستراتيجي وعسكرتاري وبوليتيكي، ورادت من سكانها 2 مليون نسمة، ومن مساحتها 26 ألف كم2، وعززت إطلالتها على البحر الأسود خاصة في الموضوع السياحي في المياه الدافئة في وقت يرتحل سكان روسيا طلباً للاستجمام في مياه العالم الدافئة ويهدرون أموالاً طائلة بحجم 2200 دولار للشخص الواحد حسب وزير السياحة والبحث عن البضائع الفاخرة خاصة في دبي ليصل إلى 212 مليار يورو ويشاركهم الصينيون، ويذكر لنا التاريخ بأن "القرم" ولد روسياً منذ عهد القياصرة و عاش حياة الاتحاد السوفييتي قبل أن يقرر الزعيم السوفييتي الأوكراني الأصل نيكيتا خروتشوف ضمه لأوكرانيا بأسلوب غامض يوم لم يكن أحداً يلاحظ أي أهمية لحراك جيوسياسي في بلاد السوفييتية الواسعة (22 مليوم كم2) وربما أن أصله الأوكراني تحرك في جسده ودفعه لفعل ذلك والله أعلم.
لم تكن روسيا بمساحتها الجغرافية البالغة أكثر من 17 مليون كم2 بحاجة لضم إقليم الكريم ولرفع صوتها وسط جارتها أوكرانيا لو لم يحدث إنقلاباً هناك بقيادة التيار البنديري المتطرف الذي تلقبه موسكو بالنازي وهو المتوقع أن يتقدمه لسدة الرئاسة عبر صناديق الاقتراع القادمة الناشط (ياروش) الذي تردد اسمه في وسائل الإعلام سابقاً لاستلام مركز أمني هام، ولو لم يبدأ الانقلابيون بمضايقة ومحاصرة السكان الروس ولغتهم الروسية والعمل على الضغط عليهم لترك أماكن سكنهم في أوكرانيا، وفي المقابل تصرفت روسيا بحكمة وبعد نظر وديمقراطية مع كامل الملف الأوكراني الذي بدأ بطلب من الرئيس الفار باتجاهها فيكتور يونوكوفيج من موسكو حمايته الشخصية والتدخل لضبط الأمن وهو ما دفع بالرئيس بوتين للطلب من مجلس الأمة نواباً وأعيان النظر في طلب الرئيس الأوكراني وتخويله استخدام الجيش إن لزم الأمر ودراسة موضوع سحب السفير الروسي من واشنطن وكان له ذلك لكنه أي الرئيس بوتين فضل تجميد أوراق (الدوما) أي البرلمان واعتبار الخيار العسكري آخر الخيارات.
الخطاب الجامع والهادئ والدقيق والمليء بالحس الوطني والقومي الذي القاه الرئيس بوتين أمام برلمان بلاده وبحضور كبار رجالات قصر الكرملين تاريخ 16/ آذار الحالي أوضح عن قرب للرأي العالم العالمي حيثيات المشكلة الأوكرانية والسبب المباشر لضم إقليم القرم، وهو الخطاب الذي رفع من سمعته ليس داخل روسيا فقط وإنما وسط خارطة العالم، حيث سرد فيه تسلسل الوصول إلى مرحلة التوقيع على ضم إقليم الكريم برغبة واضحة من برلمان الإقليم نفسه ومن سكانه وبنسبة مئوية وصلت إلى 96% إلى جانب موافقة المواطنين الروس في روسيا نفسها، وأوضح كيف أن 3 ملايين أوكراني يعيشون في روسيا وينتجون 20 مليار دولار هروباً مما أصاب اقتصاد بلادهم من ضعف وتراجع وفساد، وبين أن انضمام الكريم شكل حالة وطنية واستراتيجية لا مفر منها وبأنها لن تعني توسيع رغبة روسيا بضم مناطق أوكرانية غيرها أو التوجه لتقسيم أوكرانيا، فليس هذا هدفاً لموسكو، بكل الأحوال، وأكد على أن إقليم الكريم أصبح روسياً وأوكرانياً وتترياً مع استمرار حضور اللغات الثلاثة بتوازن، والمحافظة على تواجد الأسطول الروسي هناك وفق معاهدة دولية تاريخية سابقة، وقارن الرئيس بوتين بين موافقة أمريكا على انفصال إقليم كوسوفو عن صربيا عام 2010 وبين معارضتها على انضمام الكريم وفق أركان ميثاق الأمم المتحدة.
موسكو تؤكد بأن انقلاباً حصل في كييف العاصمة، وتيار من الأوكران يعتبرون أنهم تخلصوا من رئيسهم يونوكوفيج المحسوب على روسيا وبأنه يجب خلع الخاتم الروسي والتخلص من اللغة الروسية والتبعية لروسيا والاندماج مع الغرب الأوروبي – الأمريكي والنهوض باللغة الأوكرانية واحلال الإنجليزية لغة ثانية وهو اعتقاد خاطئ وغير دقيق ولا يعكس عمق الروابط الوشيجة بين الشعبين الشقيقين الأوكراني والروسي وبالعكس اللذان عاشا حياة سوفيتية واحدة بحلوها ومرها ومجاعتها في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، وفي المقابل لا يوجد ما يمنع أوكرانيا وبموافقة روسيا من التعاون مع الاتحاد الأوروبي ومع دول العالم شريطة عدم إدارة الظهر لجارتها المجاورة لها جغرافياً مثل روسيا، واللغة الروسية سلافية وعالمية ولا تتعارض في انتشارها مع اللغة الأوكرانية و يتحدث بها داخل أوكرانيا 85% من سكانها الأجانب 60% من سكان إقليم القرم العائد لتوه إلى أمه روسيا، ولا يوجد ما يمنع من تعلم الإنجليزية أو أية لغة عالمية أخرى تحقق الانفتاح وجوار الشعوب والثقافات والأديان السماوية.
لقد كان هناك اتفاق لترتيب الوضع السياسي في أوكرانيا تاريخ 21 / 2 من هذا العام وعدم الالتزام به دفع موسكو لاعتماد استفتاء شعبي في منطقة القرم بعد تصويت برلماني واستندت على المادة رقم 1 من ميثاق الأمم المتحدة الموجه لمساعدة الشعوب الراغبة في ترسيخ الحكم الذاتي والاستقلال أو الانضمام، وهو ما لم يستطع شعب القرم تحقيقه في ظل الدولة الأوكرانية، وتم إلغاء دستوره عام 1995 بعد أن تم إقراره عام 1991، وتم استبدال الاستقلال بحكم ذاتي عام 1992، وبهذا فقد الإقليم حق الحصول على الإدارة الذاتية، وفقدت أوكرانيا الحق نفسه، وهنا تؤكد موسكو تفوق حق القرم في الانفصال والاستقلال على حق كوسوفو في هذا المجال عن صربيا بفارق عدم تنفيذ استفتاء فيها، وبدون قرار من مجلس الأمن، وقابل هذه المعادلة شروع في فرض عقوبات على روسيا من قبل أوكرانيا والغرب بنفس أسلوب التعامل مع الدول النامية الصغيرة وتناسي أن روسيا أصبحت دولة نووية وتكنولوجية عملاقة تمثل أحد أهم أقطاب العالم وناطق رسمي وإعلامي باسم الشرق رغم رفضها لهذا الوصف تواضعاً وعلى مستوى السياسة الدولية، وهي قادرة على توجيه عقوبات بالمثل لشخصيات ودود غربية أيضاً، وأصبحت تجهز نفسها أكثر لإعادة بناء الداخل الروسي اقتصاديا وفي فضاء محاربة الفساد والاعتماد على الذات مرتكزة على ما تمتلك من إمكانات بترولية وغازية ومعدنية هائلة وعلى تبوئها المركز الثاني عالمياً في بيع السلاح.
العالم الروسي الكلاسيكي الكسندر سولجينيتسين في كتابه (روسيا في أزمة) عام 1998 تنبأ بأن المعارضة الأوكرانية المناهضة لروسيا ستضعفها وستكون مفيدة لأمريكا، والسلطات الأوكرانية اختاروا طريقة تضييق الخناق على اللغة الروسية، ووصفت خطوة خرتشوف بتقديم (القرم) هدية لأوكرانيا بأنه سرقة للدولة، بينما شاهدت أجيال العالم اليوم كيف تمكن الرئيس الروسي بوتين من إعادته بطريقة حضارية ومن دون إراقة للدماء، ومع هذا وذاك تطلب أمريكا من روسيا التعاون معها للتخلص من ترسانة السلاح الكيماوي غير التقليدي المتواجدة لدى النظام السوري من أجل سلامة إسرائيل أولاً والمنطقة الشرق أوسطية ثانياً، وفي السياسة يمكن للصديق أن يتحول إلى عدو، ويمكن للعدو أن يصبح صديقاً وسط معادلة فن الممكن.