الحرية .. بين لؤم الدنماركيين وبلادتنا
سامر حيدر المجالي
19-02-2008 02:00 AM
أود القول بداية أن ما يحدث في الدنمارك من مكائد و إساءات متواصلة للإسلام ونبيه تثير حنقي كانسان بذات الدرجة التي تثير حنقي وغضبي كمسلم غيور على دينه شديد التعلق بشخصية النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم . فالأمر خرج عن حدود الاحتمال أمام اللامبالاة المتطرفة التي يبديها هؤلاء القوم تجاه الآخرين وعقائدهم ، خصوصا أن هذه الإساءات تحصل باسم الحرية التي يتشدق بها الغرب كله ويجعل منها أساسا لحياته ومنهجا يدعي انه لا يحيد عنه .وليس يستوي في أي فهم رشيد أن البشرية في القرن الحادي والعشرين تبيح لنفسها أن تتناول رموز تراثها الروحاني بالذم والتجريح والاهانة ، في نفس الوقت الذي تحرص فيه أشد الحرص على صون تراثها المادي وتعمل على إنشاء منظمات متخصصة كاليونسكو ، تثور ثائرتها من أجل صنم حجري أو نقش زخرفي يتعرض لخطر الهدم أو الزوال . هذه المفارقة العجيبة التي يقف فيها البشر صامتين أمام محاولة هدم ونسف تراثهم الروحاني في مقابل هيجانهم وثورانهم أمام أي خطر يعترض تراث الحجارة والنقوش ، تبين إلى أي مدى وصل جهل الإنسان وحمقه واستهتاره .
عندما نشرت الرسوم للمرة الأولى واحتج المسلمون في كل أرجاء العالم ، رفضت الحكومة الدنماركية الاعتذار أو التدخل في الأمر بحجة أن حرية التعبير حق يكفله الدستور الدنماركي للمواطنين والمقيمين على ارض الدنمارك ، وهي لا تستطيع المساس بهذا الحق الذي يصل في عرفهم إلى درجة التقديس . هذه النقطة بالذات لم تحظ منا بالاهتمام الكافي ربما لأننا ما زلنا نعتبر الحرية نوعا من أنواع الكماليات التي قد تمضي الحياة بدونها ، ولأننا لا نعرف شيئا عن مسؤولياتنا وواجباتنا على وجه هذه البسيطة .
نحن مسئولون بشكل مباشر عن أمور كثيرة ، منها ضعفنا واستخفاف الآخرين بنا نتيجة قرون متطاولة من البلادة الفكرية والتخلف السياسي والاجتماعي ، ومنها انكماش فكرة الإسلام الكونية واختزالها في مظاهر غارقة في سطحيتها عاجزة عن الوصول إلى الآخر وإثارة إعجابه بنا وبحضارتنا . ومنها وهو العامل المرتبط بكل ما سبق ، خضوعنا وفقداننا لأبسط معايير الحرية وحقوق الإنسان .
الحرية المفقودة عندنا هي مناط الإبداع والتميز ، وهي كذلك مناط القوة والهيبة ، فبقدر ما يكون الإنسان حرا في وطنه قادرا على التعبير عن نفسه ، تسمو قدراته ويعلو شأنه وشأن وطنه .
وقد صاغ الأوروبيون مفهوما للمواطنة أساسه ومداره الحرية المرتكزة على ثلاثة جوانب ، الحرية المدنية و الحرية السياسية والحرية الاجتماعية . هذه المبادئ الثلاثة التي صاغها المفكر الانجليزي مارشال في عام 1949 وتبنتها معظم الدساتير الغربية ، جاءت تتويجا لعقود طويلة من العمل المضني والكفاح المرير في هذا الاتجاه .
وحتى لا نطيل في الكلام نبين هنا ما هو مقصود مارشال بالحرية المدنية فقط ، كونها هي الجزء الذي تتم تحت مظلته الإساءات التي هي على شاكلة موضوع الرسومات المسيئة .
يقول مارشال " يتألف العنصر المدني من الحقوق الضرورية لحرية الفرد – حرية الشخص ، حرية التعبير والتفكير والإيمان ، حق التملك وإبرام العقود الصحيحة ، والحق في العدالة ........ " .
هذا الكلام يبدو جميلا للوهلة الأولى ، لكنه مفتقد لمعنى سام من معاني الحرية الإنسانية ، انه احترام الآخر حتى لو كان مقيما في أقصى أقاصي الأرض . فالنظرة التي لا تتعدى أسوار البلد أو الأمة الواحدة قد تعطي الفرد ما يشتهيه ويتمناه من حرية وحقوق مواطنة ، لكنها ستكون مفتقدة لبعدها الإنساني ومثيرة لأحقاد وضغائن لا حد لها .
هذا هو مقتل الحرية الأوروبية ، الحرية غير المنضبطة التي تصل إلى مرحلة قلة الأدب والاستهتار بالآخر وعدم احترام خصوصياته ومعتقداته ، علما بأن الحضارة الغربية نفسها قد برزت فيها أصوات خافتة معاصرة أو موغلة في القدم مثل جهود الفلاسفة الرواقيين في روما القديمة ، هذه الأصوات كانت تدعو إلى تبني مواطنة ذات منظور إنساني شامل ، لكنها لم تجد الوسائل المناسبة من أجل تحقيق غاياتها ، أو تم تطبيقها شكليا بدون فاعلية تذكر كما هو حال عصبة الأمم بالأمس والأمم المتحدة في عصرنا الحالي .
يحق لنا الآن أن نفهم نصف مشكلتنا مع الدنمارك ، فالذي نجابهه عندهم ليس قرارا فرديا يهدف إلى توجيه إساءة أو استفزاز أمة ، انه منهج حياة وإيمان ذو جذور راسخة بشكل ساقط لئيم من أشكال الحرية الإنسانية .
أما النصف الآخر من المشكلة فهو وبكل أسف نحن معشر المسلمين الذين لم نكتف بالتخلي عن رسالتنا الإنسانية الشاملة ، بل أننا تخلينا عن حريتنا نحن أنفسنا ورضينا بالهوان أمام أنفسنا وضمائرنا ، فكيف نتوقع بعد ذلك من الآخر الغاشم أن يحترمنا أو يقيم لمعتقداتنا وزنا ؟
البعد الإنساني الغائب عنا تماما كما هو غائب عن الدنماركيين وأشياعهم ، هو النصف المتمم لمشكلة الإنسانية في وقتنا الحاضر وهو روحها الغائبة وسر تخبطها وضياعها .
وهنا تكمن بالضبط مسؤوليتنا تجاه بني البشر ، ويظهر تقصيرنا في أداء الرسالة التي اختزلت إلى شكليات وطقوس بلا مضمون ، ونقف بالنتيجة أمام حقيقة أننا عاجزون عن بلورة مفهوم للحرية ذي بعد إنساني ، يقارع حرية الآخر بحرية أسمى وأكمل ، بدلا من أن يحشر نفسه في زاوية ضيقة دائما ، فيُتهم بأنه إرهابي قاتل ، ويُسجٍلُ أدنى معدلات الحرية واحترام حقوق الإنسان ، وينتظر ما ستكيله حرية الغرب إليه من صفعات وركلات مذلة .
إلا رسول الله ، شعار ليس نصيبه بيننا غير الصراخ والعويل والتشنج . وسنة الحبيب المصطفى مختصرة في مظاهر خارجية ، مظاهر نجلُّها ونجلُّ المتمسكين بها ، لكنها ليست إلا بداية لرسالة هي أعمق وأهم ، رسالة ذات بعد إنساني متكامل ، تتخطى السياسة والحدود الجغرافية فتنشيء مثالا يُتَّبع وإنسانا يُحترم ، لا رسالة تقسم الأرض إلى دار كفر ودار إسلام فتتمترس داخل أسوار من الشك والريبة والقسوة ، أو تتجلد داخل بوتقات جاهزة وأحكام مسبقة فتغدو ألعوبة بيد السياسة وأهلها وعاملا مثبطا من عوامل التخلف والعودة إلى الوراء .
قد يرى البعض هذا الكلام خياليا بعض الشيء ، لكن ما أفهمه جيدا هو أنه ليس بالصراخ والعويل ننصر سنة نبينا ، وليس بالمظاهر الخارجية فقط يكون الإنسان مسلما مقبولا عند ربه .
samhm111@hotmail.com