أعتقد ابتداءً أن المشكلة الجوهرية لا تكمن في قانون الأحزاب، وأن القانون لا يُنشىء أحزاباً، فهذه ليست مهمة القانون، فمهمته تنحصر في تنظيم الوجود الحزبي، وتنظيم العلاقة بين الأحزاب والسلطة، من جهة وتنظيم العلاقة بين الشعب والسلطة من جهة أخرى، لأن الأحزاب في أصل فكرتها تمثل الوسيط بين الشعب ومؤسسة القرار، وتعبّر عما يكتنزه الشعب من أفكار واتجاهات ومشاركات وانتقادات واصلاحات واستدراكات وتطويرات وابداعات على كل الأصعدة وفي كل المجالات.
القانون الجديد يحاول أن يحقق بعض الخطوات الإيجابية في ثلاث قضايا؛ عدد المؤسسين ونقل التبعية من وزارة الداخلية إلى وزارة العدل، وتخفيض السن لمن يريد الانخراط في العمل الحزبي إلى 18 عاماً، وهذه القضايا لن تقدم شيئاً كثيراً للأحزاب، لأن تخفيض عدد المؤسسين من (500) إلى (150)، سوف يؤدي إلى تسهيل عملية إنشاء الحزب وتأسيسه، مما يعني زيادة عدد الأحزاب التي تزيد عن (28) حزباً الآن، فيمكن أن تصبح (50) حزباً أو (100) حزب، ولكن ماذا يعني زيادة عدد الأحزاب، لأن المشكلة ليست في قلة العدد بكل تأكيد، والأحزاب الموجودة تعبر عن كل الأفكار والإتجاهات المعروفة لدى الأردنيين والعرب، وأما عن تخفيض سن الحزبي، فلا يشكل إضافة كبيرة ايضاً، لأن الشريحة المقصودة هي طلاب الجامعات، والناشطون في العمل الجامعي اتجاهاتهم معروفة على مستوى الإنتماءات الحزبية، ولن يغيّر في الواقع شيئاً ذا بال.
أما عن نقل تبعية الأحزاب من وزارة الداخلية إلى وزارة العدل، فهي خطوة شكلية صوريّة، فسوف تنتقل لجنة الأحزاب من هنا إلى هناك، وسوف تبقى تمارس دورها بالصورة نفسها والروح السلطوية نفسها، ولم تغير شيئاً من منطق الوصاية المتبع سابقاً.
تطوير الحياة الحزبية هو جزء من تطوير الحياة السياسية كلها بإجمال، وتشمل قضايا كثيرة وكبيرة تحكمها منظومة تشريعية متكاملة، ابتداءً من بعض الإصلاحات الدستورية، إلى قانون الانتخاب، إلى قانون الانتخابات البرلمانية، وانتخابات الحكم المحلي، التي تنبع من ارساء فلسفة جديدة، في تشكيل الحكومات، ونظرة جديدة نحو طريقة إدارة الدولة بكل سلطاتها ومؤسساتها، بحيث تقوم على تمكين الشعب الأردني من الاختيار المنظم القائم على الوضوح في البرامج والطروحات الشاملة.
الخاضعة للاختبار والتقويم عبر مؤسسة تشريعية مشكلة من القوائم الحزبية التي حازت على ثقة الجماهير، وحصلت على الأغلبية التي تمكنها من تنفيذ ما وعدت به الناخبين قبل عملية الاقتراع.
بعبارة أخرى أكثر وضوحاً، أن اجتزاء قانون الأحزاب من هذه المنظومة، خارج سياق الفلسفة السياسية العامة وبعيداً عن قانون الانتخابات، يمثل مراوحة في المربع الأول، ولا يؤمل الشعب الأردني شيئاً من الطموحات على هذه المنهجية المتبعة من قبل المؤسسة التشريعية، ولن يشكل ذلك قفزة اصلاحية في الاتجاه المطلوب، ويظهر ذلك بوضوح من خلال خفوت الحماس الشعبي وضآلته في التفاعل مع الجهود الحكومية في هذا الجانب.
نحن نقترب من المجلس الثامن عشر، ومع ذلك فإن مستوى اداء المجلس التشريعي والرقابي لا يسير صعداً نحو التحضر والرقي والتقدم الذي يليق بالمرحلة، كما أن الاداء الحزبي لا يشهد تقدماً ملحوظاً نحو مستويات النضج والمشاركة السياسية أو على صعيد الطروحات وإيجاد البدائل، كما أن مستوى الإختيار والفرز الشعبي لا يسير نحو التحسن، ولا يعتمد معايير سليمة، بل نجد أن طغيان المعايير الجهوية والعشائرية في ازدياد وتعاظم، وأن تأثير المال السياسي يتسع ويكبر في كل دورة عن سابقتها، مما يؤدي إلى القول باننا في هذا السياق لم نحقق الإنجاز المأمول.
العمل الديمقراطي مرتكز على العمل الحزبي، وإن محاولة إيجاد ديمقراطية بمعزل عن الأحزاب هو ضرب من مضيعة الوقت، ومخالفة لسنن المنطق، وأبجديات العمل السياسي المعاصر، وقد يقال في هذا السياق إن الأحزاب ضعيفة، وغير قادرة على حمل هذا العبء، وربما يقال همساً: إنها غير مأمونة، فهذا يحتاج إلى بسط الحوار الصريح والجريء حول كيفية إيجاد البيئة السياسية التي تصنع الأحزاب القوية، وتهيئة الظروف لولادة جيل جديد من الأحزاب الجديدة القادرة على تلبية طموحات الشعب وجماهير الناخبين، ويمكن القول لكل الذين ينتقدون الأحزاب وعملها وبرامجها، عليهم أن يعمدوا إلى تشكيل أحزاب جديدة ويقدموا برامجهم للشعب الأردني وأن تخضع كل البرامج للامتحان العملي، والشعب هو الحكم في نهاية المطاف.
(الدستور)