تمثل الجامعات منارات للعلم والقيم والأخلاق، وتعلو بقيم العدالة والكرامة والفضيلة والعلم، ولا يخفى تأثيرها في المجتمع وما تقوم به من دور فاعل فيه، وما تؤديه من رسالة عظيمة، فهي مصانع العقول والأجيال، فأن ترقى بالمجتمع وتعمل على تطويره هو الوضع الطبيعي والمهمة الرئيسة لها، أما أن يسلبها المجتمع شيئاً من قيمها فأمر ينذر بكارثة خطيرة وعاقبة وخيمة.
ما أريد أن أتحدث عنه هو تلك القيمة الاجتماعية السلبية التي تعرف بـ " الواسطة" والأصح أن يقال: "الوساطة" التي تعمل جاهدة لتحل محلّ الأنظمة والقوانين، بل تحاول أن ترغم هذه القوانين والأنظمة من أجل أن تتكيف وتفسّر باتجاه خدمتها وتحقيق مقاصدها. فحين تراجع مسؤولاً في دائرة حكومية أو غير حكومية تسأل عنه، وعمن يعرفه ليسدي إليك خدمة ربما لا تستحقها، وهذا لا يحتاج إلى مزيد تفصيل، فالواقع الاجتماعي يعجّ بالوقائع. لكنّ الذي أريد أن أفصل فيه القول هو الوساطة التي تتحكم في سير العمل الأكاديمي في الجامعات وتهيمن على أصحاب القرار والمتنفذين فيها على وجه يجسد الظلم وينفي العدالة، فثمة تساؤلات تطرح نفسها وتحتاج إلى إجابات واضحة، أو تفسير مقبول لها، ولا يقصد من هذا إلا التنويه إلى حجم المشكلة، وضرورة اتخاذ كافة السبل لحلها، ومن هذه التساؤلات:
يرسل عضو هيئة تدريس بحثا إلى مجلة فيتمكن من معرفة المحكمين فيبدأ بالتوسط عندهما، أو يتصل بمن يظن أن بحثه وصل إليه فيسأله ويوصيه... ويوصيه...!
ويتقدّم عضو هيئة تدريس ببحث إلى مجلة علمية محكمة فيمكث بحثه شهراً ثم تأتيه بشرى قبوله للنشر، ويتقدم عضو آخر فيمكث بحثه عشرة أشهر أو سنة حتى يحصل على قرار مماثل، فما تفسير ذلك؟ كيف اجتمعت هيئة التحرير واختارت محكمين ثم أرسل إليهما ثم جاء تقريران إيجابيان ثم يُبشر صاحب البحث بقبول بحثه بسرعة البرق؟؟
ويتقدم عضو هيئة تدريس للترقية إلى رتبة علمية فتمكث ترقيته شهراً أو شهرين على الأكثر، ويتقدم عضو آخر فتمكث ترقيته سنة أو أكثر حتى يترقى، فما تفسير ذلك؟ أعني كيف اخترقت ترقية الأول كل المجالس فقامت وذهبت وربما طارت خارج الوطن ورجعت إلى المجالس كلمح البرق في شهر أو أقل من شهرين؟؟ والسؤال لماذا تختص سرعة البرق ببحوث بعضهم أو ترقيته !! ولماذا يعمل البرق لصالح بعض دون بعض !
أما عن التعيينات في الجامعات فحدّث ولا حرج عن مبلغ الوساطة وقوّتها، وتأثيرها الساحر, فهي قادرة على أن تلغي تعيين شخص يمتلك الكفاءة العلمية، والمقدرة العلمية، والتفوّق العلمي، والذكاء العلمي، والبحوث العلمية ... وتتقدم على ذلك كله ! فتنعكس بتعيين صاحبها كل الآثار السلبية على مخرجات التعليم الجامعي !
وعقب إجراء الامتحانات النهائية يكثر الطارقون لهاتفك: يا دكتور، الطالب فلان الفلاني أخ وصديق وعزيز علينا، ويهمنا أمره، ارفع درجته، الله يرفع درجاتك، ويعلي مقامك في الدنيا والآخرة ! فما تفسير هذا السلوك؟ وربما يكون هذا المتصل زميل لك في القسم أو في الكلية أو في الجامعة أو في جامعة أخرى! وربما صديق قديم لم يتصل بك منذ سنين !
وإذا ما تجاوز طالب الحد المسموح به من الغياب تتدخل وساطات كثيرة لتحول دون حرمانه من المادة، بل ينجح فيها ويتفوق ويحصل على ممتاز ولم يحقق شرط المواظبة البالغ 75% من المحاضرات ! والمشكلة أن الذي يقود هذه الوساطات – أحيانا- أكاديميون محترمون !!
وتهيمن عقدة الدم والقرابة والصداقة والنسب وتلقي بظلالها على بعضهم وهو يقيّم طلابه ويرصد لهم درجاتهم النهائية التي ينبغي أن تعكس المستوى الحقيقي للطلبة، فماذا يعمل لمن يرتبط معهم بتلك الصلات؟ وهل سيكون موضوعياً ؟ لقد أطلعني بعض الزملاء على نتائج بعضهم فإذا هو يكرم فيمنح هؤلاء الطلبة درجات أقلها 80/100، وربما يكون هؤلاء الطلبة قد تغيبوا عن بعض الامتحانات ! بل ترصد لبعضهم درجات ممتازة دون أن يتقدموا لامتحانات نهائية !! لقد تحطمت كل الأعراف الأكاديمية عند هؤلاء، وعلت الوساطة إلى حدّ إهمال كل معايير التقييم العلمي الموضوعي للطالب !
وتبلغ الوساطة ذروتها حين تلغي تعليمات منصوصاً عليها... ناقشنا رسالة ماجستير مع زميلين فاضلين، تبين فيها أن الرسالة تضمنت سرقات علمية كبيرة، ولا ندري أتم ذلك بجهل من صاحب الرسالة، أم بغفلة من المشرف، المشكلة هي النتيجة التي تمخض عنها قرار اللجنة وهو تعديل الرسالة بفعل قوّة الوساطة، فتحفظت على القرار، ومعلوم أن التعليمات تمنح الطالب أربعة شهور لإجراء التعديلات، فانتهت الشهور الأربعة ولم يعدل الطالب، فمدّدوا له شهراً خامساً مخالفين بذلك كل التعليمات، ولا ندري أحصل ذلك بسبب ضعف الإدارة في الجامعة أم بسبب قوة الوساطة !! ثم نجح صاحبها !! والأصل أن يحال إلى لجنة تحقيق ويحرم من أي درجة علمية، لكنها الوساطة ... تفعل ما لا تفعله الأنظمة والتعليمات ! والوقائع والأمثلة أكثر من أن تحصى !
إنّه إن ظلت الوساطة هكذا .. تقدّم الكسول المهمل وتؤخر النشيط المجدّ .. تقدّم الغبيّ الساذج وتؤخر اللبيب الذكي، – إن ظلت تتحكم في العملية التعليمية على هذا النحو فلا تسألنّ عن مخرجات التعليم ومصيره ومستقبله ! ولا تسألنّ عن الأعباء الثقيلة التي سيتحملها الوطن ؟ إنّه في غلبة الوساطة وهيمنتها بهذه الصورة ظلم للوطن وخذلان له؟ وإيذاء متعمد لأولئك الذين ألقت بهم الوساطة إلى الوراء ! إن جامعاتنا لن ترقى ولن تتقدم ما لم تتضافر جهود القائمين عليها على تحجيم الوساطة وتضييق الخناق عليها بحيث تصبح منكراً من المنكرات.