تزدحم في شهر آذار الذكريات مثلما تزدحم فيه المناسبات؛ عيد الأم، وذكرى معركة الكرامة، وبداية فصل الربيع بدفئه وابتسامة أرضه، ونمنمات أزهاره.
كنا نقف في طابور المدرسة لنحتفل بمناسباتنا السعيدة تلك؛ نستمع لحديث الكرامة بفخر واعتزاز، لا نفيق من زهونا إلا على صوت نشيج إحدى الزميلات على عزيز من أعزاء الكرامة.
وعيد الأم التي كانت وما زالت تقدم الشهداء تلو الشهداء حين تطلبهم الكرامة، وحين تطلبهم فلسطين، وحين يطلبهم الربيع العربي تقدمهم بسخاء أيضا...
لا أدري إن كان مصادفة أن يأتي عيد الأم والكرامة في يوم واحد، وهل هناك أكثر من الأم انتظارا لفلذات الأكباد الذين غادروا للشهادة أو الأسر، أو النصر؟!
لكننا اليوم استبدلنا حديث الكرامة بأحاديث الفساد، والخراب، والإفلاس المالي والسياسي، وتبادل الاتهامات! لقد أنضجنا الغضب بعدما تحوّل الوطن إلى شاة تُنهش بعدما أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف! وفي الأمس كان الكل يتسابق لحمايته، والكل يتغنى بكرامته.
اليوم لا أحد يتحدث عن الكرامة، فقد أصبحت نسيا منسيا، ضاعت بضياع الأوطان، وهل لإنسان كرامة دونما وطن؟!
أما الربيع، فقد تغيّر لونه وطعمه، ولم يعد ذلك الفصل الذي يمنحنا الدفء، بل أصبح مضرجا بالدم والألم والخراب والدمار... لقد أصبح ربيعنا زعتري!
لقد حوّلنا كرامتنا إلى ما يسمى بالربيع العربي... ليتنا أبقينا على الكرامة، ولم نعرف الربيع، ففي ظلها كنا نعرف قيمة شهدائنا ودمائنا أكثر...كنا في الماضي نعرف هويتنا، وكانت بوصلتنا تعرف أعداءنا، أما اليوم فقد ضيعنا الهوية، وتاهت البوصلة....فأصبحنا نقتل أنفسنا، ولا نعرف لماذا؟! ولا نعرف إلى أين المسير أو المصير؟!
لقد استبدلنا دفء الربيع، وأزهار اللوز، وخضرة الأرض المزينة بألوان الزهر بالزعتري وأشباهه، وقالوا لنا: هذا هو ربيعكم، فأحبوه... لماذا تلوثوا الأسماء الجميلة؟! سموا الأشياء بأسمائها!
لم نعد نتألم اليوم عندما نلمس جراحنا في فلسطين، فلدينا ما هو أعظم منها، وأكثر إيلاما، فنحن في هذا الربيع لم نعد نخلع وجه الحزن، فمنذ 3 سنوات أصبحت ولائم الحزن في بلاد العروبة دائمة، وخيبات الأمة لا تنتهي ...
اما أنت يا أمي فما زلت الحقيقة الأجمل، وأنت ما زلت النخلة الشامخة، التي تعرف طريقها، لم يلوثها ملوث، ولا فساد، ولا قهقهات الكراسي...
ففي أعماق عيونك يا أمي ينبعث التاريخ والأمل، وحينما ينفتح القلب ساعة؛ أتذكر بساطتك وقناعتك، فأين هم منك الفاسدون والطامعون والبائعون؟!
وحينما يمر شريط الذاكرة، فأنت وحدك ما زلت تشبهين ربيع حوران، الذي احتضناه في قلوبتا قبل أن يمتد أمام ناظرينا؛ ربما لأنك لم تدخلي لعبة السياسة، ولم تعرفي فن المراوغة...
أعي في هذه اللحظة كم أحبك يا أمي، وكم أنت نقية يا أخت (أبو فيروز) شهيد الكرامة، ويا خنساء فلسطين، وأم الأسرى... ويا صبورة الزعتري...
لقد حان وقت السفر إلى زمانك، فلم يبق إلا إياك راسخة ثابتة تمتد جذورك في أعماق الوطن الطهور، محتفظة بلونها ونكهتها وكرامتها، لم تتغير ولم تتلون، ولم تفسد.
فكل عام ووجهك الوضّاء بخير حتى يبقى الوطن بكرامة وخير.