عندي مؤشر لا يخيب في التعامل مع القضايا غير العربية، وموقفي عادة أقرره بعد أن أدرس ردود فعل عصابة الحرب والشر من أنصار اسرائيل، خصوصاً في الولايات المتحدة، فكل قضية يعارضونها أنا أؤيدها مرتاح الضمير.
عندي اعتراضات كثيرة على السياسة الروسية، واعتراضات أكثر على السياسة الاميركية، غير أنني في موضوع شبه جزيرة القرم والاستفتاء هناك والعودة الى روسيا أعرف التاريخ من دون حاجة الى انتظار موقف عصابة اسرائيل.
ما أعرف هو أن حرب القرم في أواسط القرن الثامن عشر كانت بين بريطانيا وفرنسا والدولة العثمانية من جهة وروسيا، وليس اوكرانيا، من جهة أخرى. روسيا خسرت تلك الحرب ثم عادت وضمت اوكرانيا اليها بعد 20 سنة. في سنة 1954، وأوكرانيا جزء من الاتحاد السوفياتي، أعطى نيكيتا خروشوف شبه جزيرة القرم الى اوكرانيا، من دون أن تصبح «جزءاً لا يتجزأ» منها، وإنما حملت صفة جمهورية ذات استقلال ذاتي حتى يومنا هذا، لذلك من حقها أن تجري استفتاء، ومن حقها أن تنفصل عن اوكرانيا على أساس نتيجة الاستفتاء. ويتبع أن من حق الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي أن يرفضا إلا أنهما لن يغيرا شيئاً من واقع الحال.
بما أن المعارضة في أوكرانيا قاطعت الاستفتاء فإن نسبة تأييده تجاوزت 90 في المئة. فالروس في اوكرانيا، وهم غالبية تتجاوز السبعين في المئة، صوتوا وحدهم تقريباً بالعودة الى الوطن الأم، وقد وقع فلاديمير بوتين فوراً معاهدة ضم شبه جزيرة القرم الى روسيا (بقي أن يسأل المسلمون عن مصير 300 ألف من التتر المسلمين في بلد يضم مليوني نسمة).
كل ما سبق معلومات ثابتة، وحسمت أمري بالانتصار لروسيا بعد أن قرأت حملات للسناتور جون ماكين والسناتور ليندسي غراهام، ورئيس مجلس النواب الأسبق نيوت غينغريتش، تهاجم روسيا وتنكر نتيجة الاستفتاء وتدعو الى تدخل عسكري.
لا أتمنى لأحد زكاماً ولكن أتمنى لو كنت قادراً أن أبصق على كلاب الحرب هؤلاء، فأنا لا أنسى أنهم أيدوا كل حرب على العرب والمسلمين وأن دماء مليون ضحية على أيديهم في حروب جورج دبليو بوش الخاسرة.
أسوأ من فرسان الشر الثلاثة تشارلز كراوتهامر الذي يكتب بنَفَس ليكودي حقير وهو يتهم باراك اوباما بالضعف ازاء فلاديمير بوتين، ويحتج على خفض موازنة وزارة الدفاع، ويسجل ما يعتبر أنه تراجع اوباما عن مواقف أعلنها والمحصلة أن اوباما تراجع عن خوض حروب. ومثله الليكودي بيل كريستول الذي يدعو الاميركيين للاستعداد للحرب.
أما زبيغنيو بريجنسكي، وأصله من شرق اوروبا، فكان موقفه: اعترفوا باوكرانيا رسمياً، وأعدوا قوات حلف شمال الأطلسي.
الولايات المتحدة أفلستها حروب بوش الابن، وأعادتها إدارة اوباما الى وضع اقتصادي أفضل، غير أن دعاة الحرب يفضلون الحرب ولو دفع ثمنها المواطن الاميركي من دون أن يكون له فيها سبب أو فائدة.
الرئيس اوباما أصدر بياناً أعلن فيه عقوبات متزايدة تدريجياً على أفراد، بينهم مواطنون روس، وهدد روسيا بعزلة دولية. لا بد أنه يعرف في قرارة نفسه أن مثل هذه العـقوبات لا تؤثـر شـيئاً. مجرد مزحة سياسية. أهم منها أن الاتحاد الاوروبي جـمّد عضوية روسـيا في مـجـموعة الثـماني.
كنت رأيت أن أزمة شبه جزيرة القرم تشبه أزمة الصواريخ الكوبية، ثم قرأت أنها من نوع موقف بريطانيا ازاء جزر الفوكلاند، أو أنها مثل سياسة استرضاء المانيا النازية عشية الحرب العالمية الثانية. وكان فلاديمير بوتين احتج على انفصال كوسوفو عن صربيا سنة 2008 ثم استعملها مثلاً في أحداث شبه جزيرة القرم. وأقرأ أن الحرب الباردة عادت، وأقول إنها غابت ولم ترحل، والآن برز رأسها من جديد.
(الحياة اللندنية)