بعيداً عن المشهد السياسي الباهت الذي عاشه المواطن بعد انتظار ثلاثاء الثقة، يقفز إلى ذهني كلما استمعت لشعارات حنجورية شديدة الادعاء وربما الابتذال، دريد لحام في مشهد الختام من مسرحيته "كاسك يا وطن"، حين تخيل مكالمة تدور بينه وبين والده الشهيد في الجنة، وحين أكد له أن ما "لدينا" يفوق بكثير كل ما "لديكم" ولا ينقصنا إلا "شوية كرامة"!
كل ما طرحه بعض من جموع المواطنين ونوابهم لا يتعدى فزعةً اعتدنا عليها حين تنزل علينا المصائب والكوارث والعواصف الثلجية والقرارات الحكومية وارتفاع الأسعار والهزائم الكروية والحوادث المرورية، فننطلق لنعلن سخطنا تجاهها ثم نهبط على لا شيء.
على لا شيء هبطنا يوم الثلاثاء، وبعد مرور المُهلة النيابية والتحذيرات شديدة اللهجة وطارت أحلام المساءلة وسحب الثقة، بل حتى لم يقوَ من انتخبناهم على مناقشة اللاءات الثلاث التي أعادتنا إلى قمة اللاءات الشهيرة في الخرطوم.
فعلاً لا ينقصنا إلا "شوية كرامة"، وإلا فكيف ننالها ونحن ننأى بأنفسنا عن المشاركة السياسية وصناعة نوابنا بالوسائل والأدوات الانتخابية السليمة، التي يصنع شعوب العالم بها مجالسهم التشريعية، فتكون خير ممثل لطموحاتها ومعبر لتطلعاتها.. في الولايات المتحدة تكتسب انتخابات المجالس المحلية اهتماماً أكبر من انتخابات الكونغرس نظراً للدور الخاص بالنائب المحلي في تقديم الخدمات البلدية والحضرية على الأرض، مع إبقاء باب المساءلة مفتوحاً على مدار فترة البلدية.
في الهند خسر الحزب الحاكم معظم قواعده الانتخابية بسبب فشل الحكومة في مواجهة الفساد والبطالة، وفي البرازيل تراجعت شعبية الرئيسة ديلما روسيف بعد أن كثرت الشكاوى من ارتفاع أسعار المواصلات وسوء الخدمات الحكومية، واستياء الكثير من المواطنين لعدم المساواة بين المواطنين. وفي اندونيسيا ستفقد الأغلبية البرلمانية فرصتها بالفوز مجددا في الانتخابات القادمة بسبب البطء الكبير في الاقتصاد الإندونيسي.
في الأردن صد بعض النواب أي محاولة لسحب الثقة من الحكومة في غير مناسبة وفي أكثر من واقعة، بل تراجع من طلبوا استجواب الحكومة عن ذلك في مناسبات أكثر، وبقيت الطريق بين الرابع والعبدلي سالكة بيسر وبدون مطبات، حتى يكاد الرابع يكون الآن أقرب للعبدلي من أي مكان آخر.. معاكساً بذلك لأي مشهد سياسي في العالم تكون فيه الحكومة على جانب والتشريعيين الرقابيين المسائلين على الجانب الآخر.
أزمتنا ليست في بعض النواب ولا في أدائهم ولا حتى في عزوفنا عن الانتخاب بحُجة أن كل الموجود من نوع واحد و"فخار يكسر بعضه".. وليس أيضاً في استسهالنا وتقبلنا لمشهد "المال السياسي" كجزء أصيل من اللعبة السياسية، ولا يمكن أن تكون بانحيازنا الجارف لأقاربنا ومعارفنا اللاهثين وراء المقعد البرلماني ونحن ندرك جيداً قدراتهم ونواياهم.
أزمتنا ليست في الحكومة التي ترى أن على المواطن أن يتفهم الضغوط المالية وقوانين الدعم العالمي والصناديق الدولية وفاتورة الطاقة وأزمة الغاز والأنبوب الذي يتوقف عن العمل كل أربع دقائق والجوار الضاغط.. أزمتنا في منظومتنا الأخلاقية التي انهارت مرة واحدة.
هي في المياه المسروقة بالملايين على عيون الاشهاد، المنقولة إلى الأرض الزراعية بكهرباء مسروقة هي الأُخرى، وفي الآبار المحفورة غصباً، في الامتحانات التي تُسرب وتُباع في بورصة مفتوحة، في اقتحام قاعات التوجيهي وفي الاعتداءات على الأرصفة وحقوق الجار والمار، وفي تملك الشوارع والأزقة في آلاف الممارسات المُجحفة بحق البلد وأبنائه بسبب (الأنا).
حين نتوقف عن كل هذا يحق لنا أن ننتقد، وأن نسأل أين كرامتنا التي استباحها الإسرائيليون على الجسر وأضاعها من انتخبناهم.
(الغد)