ونندهش كل عامٍ بذات الوتيرة كيف تنفلت الأيام منّا في خلسة من احساسنا بالوقت. نركض وتركض معنا مشاغلنا ومسؤولياتنا وهمومنا. نكبر ونتعب ونبتعد، ونظلّ نحنّ إلى أيامنا البسيطة وذكرياتنا الحميمة وكأنها، في مهب انشغالاتنا، مصدر قوّتنا الوحيد.
إلى أمّي نهرب من تفاصيلنا الكثيرة.. إلى أبي الحنون مرفأ الأمان، حيث يحطّ جناحنا وينام. ثمّ كلما اقترب عيد الأم نتخبط في بحثنا عن هدية تليق بأمي. نتحمّس ونتهامس حفاظاً على سرّيّة المفاجأة، نختلف ونتفق نحن أبناؤها وبناتها وأحفادها ونحتار كثيراً قبل أن نختار، هذا ونحن نعلم جيداً أننا سنحضر هدية هي لا تنتظرها ، ففي كل مرة تعاود أمّي تدوير الهدايا المكدسة التي أتينا بها، لأننا، برأيها، أكثر حاجة لها منها، أو أنها أمام اصرارنا على احتفاظها بالهدية لنفسها، تنقدنا ثمن ماأحضرنا.
في عيد الأم هذا العام يكبر صبر أمي أكثر، وتبدو بأمراضها العتيقة والمتجددة سنديانة شامخة تأبى أن تفرغ حمولة وجعها أمام أحد.. فصبرٌ جميل يا من يصادف يوم احتفال العالم بالأمهات أن تكون بانتظار دورها في مركز الحسين للسرطان، فصبرٌ جميل هذا الذي تفقئين به جرعات كيماوية لا تقدر على العبث بطيبتك.
ماأتعب المرض ياأمّي إذ يصبح صاحب بيت.. لكنّك شجرة التوت الباذخة ، بأطيب ثمر وأفخر عطاء دون أن يعنيكِ منّا عناية أو تقصير.. أنت فصول السنة، أنت ملجأ الشرانق والفراشات..وأنت مواسم عزٍّ وحصادٍ وفاكهة كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة.
إنهنَّ أمّهات ينفضن عن أجسادهن غبار التعب العالق لأجل اكتمال فرحنا ، وبرغم خبرتهن العتيقة بأمراض راكمها الزمن، مافارقت احداهن رأس عملها كمنارةٍ لأبنائها، أمهاتنا اللواتي مهما كبرنا أو ابتعدنا، نظلُّ نقبض على حضورهن في حياتنا كتعويذة منجية كلما اتسعت فينا مساحات التصحّر.
ستبقين ياأمهاتنا تنشرن البشائر.. سيظلّ ينبت فوق ضحكتكنّ الثمر.. وسنظلّ نهرب إليكنّ كلّما نفذ منّا رصيد الأمان.
خضراء ، صامدة وصبورة أنت ياأمي ، لن تخبو أمام سخاء المرض وريقاتك المتفتحة كل إشراقة حُب. فصبرٌ جميل.
(الرأي)