بالمعيار الحسابي لم تخسر حكومة الدكتور النسور سوى 2% من رصيد الثقة التي حصلت عليه في بداية تشكيلها من السادة النواب، رغم كل العصف النيابي وكل القذائف الحزبية، ونجحت في اجتياز عقبة كؤود تمثلت بالغضب الشعبي والنيابي على اغتيال الشهيد رائد زعيتر مسبوق ذلك كله بإجماع نيابي على طرد السفير الاسرائيلي وسحب السفير الاردني، اي انها نجحت في تحقيق نجاحين في خطوة واحدة، نجاح تكرار الثقة ونجاح اسقاط مطلب طرد السفير بعد تراجع 81 نائبا عن موقفهم السابق بالطرد، لأن الاداة النيابية لإلزام الحكومة بتنفيذ الرغبة النيابية هي سحب الثقة فمجلس النواب لا يملك تنفيذ قراراته الا من خلال الثقة سحبا او منحا في غير القوانين .
الحكومة التي اقدمت على قرارات اقتصادية وسياسية جسورة نجحت في اقناع المجتمع بأكثر مما حققه النواب، ربما لمهارة الرئيس وربما لاحساس المجتمع بضعف النواب .
المجتمع الاردني ورغم غضبه الصادق على شهيد المعبر ورفضه لمعاهدة وادي عربة وعزوفه عن التطبيع يعرف ان قطع العلاقات وسحب السفير يتطلبان قوة اقليمية تسند القرار الاردني وهذه القوة مفقودة الآن، بوقوع سوريا في شرك الاحداث الدامية وتفكك العراق وانشغال مصر بمعاركها الداخلية ويعرف ان الغاء المعاهدة يتطلب عمقا قوميا وسندا دوليا يفتقدهما الاردن، فمال الى البحث عن تعميق الاستقرار والتعبير عن الغضب والإدانة بوعي عميق للحظة الوطنية بل كان يبحث عن مخرج آمن لنزول النواب عن شجرة الحجب، خاصة بعد الاعتذار الاسرائيلي الرسمي للاردن عن استشهاد القاضي زعيتر .
النخبة لم تدرك الوعي الجمعي للمجتمع الاردني وانه يملك الادوات الغرائزية والمعرفية للتفريق بين الممكن والمتاح وبين المطالب الاستراتيجية والفعلية، فغرّبت وحدها وأسهمت في تعميق الهوة بينها وبين المجتمع العازف عن دعم الاحزاب والنواب رغم تحفظاته على الاداء الحكومي وتراجع منسوب الثقة فيها، لكنه وعي الضرورة المجتمعي الذي قدم الاستقرار والامان على اي شيء آخر، بدليل ان غضبه العارم لم ينتقل الى الشوارع والميادين ولم تحقق دعوات الاحزاب بمن فيها جماعة الإخوان المسلمين اية استجابة شعبية .
المجتمع الاردني يعرف طريقه او اختار طريقه واولوياته في اللحظة الوطنية الراهنة، وبقي ان يعرف النواب طريقهم واولوياتهم، فتكبير الحجر النيابي سيودي بالنواب الى التهلكة السياسية واستمرارهم بالعمل الصوتي سيزيد من تراجع الثقة فيهم وتكرار مماطلتهم في اقرار القوانين اللازمة لتسريع وتيرة الحياة السياسية وتفعيل العجلة الاقتصادية سيجعلهم اسرى المحبسين “ الحل السريع وتكرار التغيير على الاسماء “ .
الحكومة كانت اكثر دراية بالاوليات المجتمعية واكثر واقعية في التعاطي مع الغضب الشعبي ونجحت الى حد ما في تأطير هذا الغضب واستثمار التخوفات المجتمعية من الفوضى واستغلال الشهيد ودمه لحسابات سياسية في وطن على علاقة موصولة مع الشهادة منذ التأسيس، فيوميا هناك شهداء وهناك استجابة شعبية لزكي دمهم، ولا تفريق بين دم الشهداء، ولا تحتفظ الذاكرة المجتمعية بسجّل من الغضب الحزبي للشهداء .
لذلك نشطت الحكومة في توفير نزول آمن للنواب عن شجرة الحجب لانها لا تريد خسارة المجلس وليس من مصلحتها توتير علاقته مع المجتمع لحساباتها الذاتية ولحسابات اللحظة الوطنية مسنودة بدعم شعبي قدّم الامان والاستقرار على لقمة عيشه وقوت عياله، وهذه المعادلة التي يجب ان تُعظمها الحكومة بقرارات سياسية واقتصادية تحقق العدالة والامن الاجتماعي وان تستثمر الحالة الاجتماعية الواعية لمزيد الاصلاح الاقتصادي والسياسي ومحاربة الفساد .
(الدستور)