كانت الساعة السادسة مساء "الموعد الذي حدده الاخوة في منتدى المفرق للقاء الحواري الذي اتفقنا على ان لا نطيل الحديث لنستمع الى رؤى الاخوة الذين سيشاركوننا الحوار".عندما وصلنا الى المفرق التي كانت ملتقى المغاربة والمشارقه منذ مئات السنين كان الاخوه الداعين في استقبالنا عند بوابه المقهى الذي استقر على ناصية احد اهم شوارع المدينة التي كل ما فيها سهلا.
المفرق كان اول رؤساء بلديتها من اصول ليبيه قدموا لها منذ مطلع القرن الماضي.تداخل المنابت والاصول الشامية واليمنية والقيسية والغسانية جعلت من الحوار ضرورة ومن ااثقافة نتاجا لتفاعلات اهلها المقبلين على الحياة بامل لا يعترف بالقنوط او يقبل الخذلان فبعد الحدود الصحراويه تختبيء مدنا تشع نورا وحكمة وثقة دفعت اهليها لتسيير الجيوش للعاصين والخارجين والمرتدين والكافرين.....وشرقها يسمعون في الليالي الهادئة صوت الثكالى المستجيرات بالمعتصم ....وضرب سنابك خيل جيوشه التي ما تلكئت في تلبية صرختها حتى لا تشعر الحسان بالخوف وهن يقمن على اثار بعولتهن الذين جابوا الكون عرضا وطولا لينشروا ليحاربوا الاستبداد والغطرسة والظلم.
في المكان تكاد ان صمت قليلا ان تسمع ميسون الكلبية العائدة من بلاط الامويين الى البيت الذي تخفق فيه الارياح وتتخيل الشفوف التي تركتها لحريم الخليفة بعد ان قررت التوحد مع وجدانها البدوي والسمع الى كلبها الذي سقرع جرس الاستعداد لملاقات الطراق
في المدينة تلمس عبق وروح وتلمح ذاكرة تاخذك في رحلة عبر التاريخ الذي يتجاوز المشاهدات التي قد يظن البعض انها البدايات.
الرجال والنساء الذين جاءوا من الشام والعراق والمغرب العربي والحجاز اخذوا من ذاكرة وسحر المكان كما اعطوا له ودون الامعان كثيرا تشعر ان لكل فكرة امتداد ولكل سؤال اجوبة من الفصول التي عايشتها المدينة والفها النا. في المفرق وسائر بلداتنا كان التدينولقرون عديدة شاميا لا تزمت فيه فهو فهم للدين على الطريقة الامويه.
وما لبثت ان تغيرت النظرة للدين وممارسته في نهاية السبعينيات وتعاظم الاثر في الثمانينيات والتسعينيات بفعل انتشار الروح الوهابية وتفاعلها مع التقاليد القبلية التي عملت على تحجيب الناس والصغيرات واطلاق اللحى ودخول البراقع الى فضائنا العام بمستويات لم نالفها من قبل .
في بعض مراكز المدن والبلدات الاردنيه جرى تشجيع القرويين وابناء القبائل المتجانسة عرقيا للا ستقرار في اواسط وقصبات المدن والبلدات من اجل تحصينها في وجه المد الخميني الذي كان الخوف العربي من انتقاله غربا كخوف الراسمالية من تمدد الشيوعية قبل مجيء جورباتشوف للرئاسة الروسيه وبرنامجه الاصلاحي الذي ادى الى تفكيكها من الداخل دون ان يبدي الكثيرين منهم اسفا على ذلك .
بعد نهاية السبعينات اشتعلت الواجهة الشرقية للعالم العربي بعودة الخميني واشتعال الثورة الايرانيه فتجدد الخوف من ان تجتاح اسواقنا واحيائنا العمائم السوداء فسارعنا الى اطلاق اللحى على الطريقة الوهابيه ورفعنا اسوار بيوتنا وعدلنا مخططات البناء لفصل الحرملك عن دواوين الرجال.....في كل ذلك ساعدنا حليفنا العم سام الذي دفعة الخوف هو الاخر من ان لا يبقى الرابح الوحيد واللاعب الاوحد على ساحاتنا السياسية والاقتصاديه.
هذا الخوف كان وراء تحالفه مع البعث العراقي لضمان استمرار تسعير النفط العربي بالدولار ولبعث المخاوف التي تدفعنا لاقبال على شراء الاسلحة التي اتخمت بها مستودعات التخزين الامريكية .
في بلداتنا كان النسيج الاجتماعي اول ضحايا استعداداتنا لمواجهة المد الخميني على الطريقة الامريكيه فقد جاء تشجيع الريفين وتيسير انتقالهم الى مراكز المدن كاجراء امني يحول دون تشكل خلايا يصعب اكتشافها فتغير التوزيع السكاني و تخلخل النسيج الاجتماعي و ضعف المد الثقافي وانعكس ذلك على طابع بلداتنا وحلم انسانها في الاحتفاء بالحياة والاستمتاع بها لحساب مواجهة الخوف والدمار والتهيئو الى الحياة الاخرى.
في معظم بلداتنا حلت الدشاديش القصيره.. واعواد السواك.. وافواج الرجال الذين يجوبون الساحات العامه والاحياء ...ويقيمون في المساجد ...ويطوفون البلدات... والمدارس يدعونك لاعتناق الاسلام من جديد محل الانشطة التقليدية للمجتمعات في ميادين الثقافة والفكر والفن والسياسه.
في الستينيات من القرن الماضي كان مجتمع المدينه خليط من المسلمين والمسيحين يشعرون ان فضاء مدينتهم ومراكزها ومرافقها وجدت لتلبي احتياجاتهم الثقافية والانسانية ..في المدينة كانت خلايا الاحزاب الشيوعي... والبعث ..والقوميين العرب...وغيرها .وفيها كانت الحياة الاجتماعية الناشطة التي لا تعرف التزمت او الاستقطاب .
ياتي البدو واللدو والزوار والحرفيين واصحاب المهن والمثقفين ليقيموا في المدينة التي شرعت ابوابها واخذت على عاتقها صهرهم ونسج علاقاتهم على منوال التخصص والاعتماد المتبادل والروح المدنيه الخاليه من التعصب.
في المدينة كانت دور السينما تقدم صور من الحياة والابداع تامها الاسر نساء ورجالا واطفالا .سينما بغداد..والجزائر .تقدم عروضها اليوم في صالات اعتياديه ..كذلك كانت "الشرق" تتميز بعروضها الليلية في الهواء الطلق..
كان ذلك قبل ان يعود الاردن ليصبح محيطا يتاثر بمركزية الثقافة الخليجيه التي اتسمت بطابعها الاستهلاكي ومظهرها الديني واصرارها على ايجاد حياةذكورية لا يكون للمراة فيها حضورا الى من وراء الستائر والبراقع ....بالمقابل عجت مطابخنا بالاطباق التي يختلط فيها البيض بالارز والتوابل الهنديه بالحامض حلو ...وغزا صدورنا دخان التمباك العدني والمعسل البحريني واصبحنا لا نقوى على النهوض بمهامنا المنزليه دون عون العامل المصري والشغاللة الاسيويه.
رحلتي الى المفرق بصحبة اخي جريس سماوي الذي خبر ثقافتنا وفننا وشعرنا وتراثنا لسنوات ...واصدقائي الاحباء اجمد العون ابن المفرق التي لم يعرفها في الزمن الذي اتحدث عنه ...وطارق اصغرنا عمرا واكثرنا اقبالا على التعلم والاستكشاف .
رحلة الامس كان فيها من الاكتشاف والاثارة والمتعة والفائدة اكثر من عشرات الرحلات التي اتخذتها شرقا وغربا في بلدان العالم.
في المقهى الذي عقد فيه اللقاء الذي لا يختلف عن اي سيمنار في مركز للابحاث في اكثر بلدان العالم اهتماما بالفكر والعقل والواقع...دار نقاش فيه من الدقة والتنوع والحميميه والصدق والاكتراث ما قد لا يكون في المكاتب التي تعمل تحت قسم الاخلاص والشفافية والنزاهة....
تحدث اخوتنا عن الواقع والمصير...والدولة والموارد...والتوترات على حدودنا وانماط ردودنا....الاسئلة حول المستقبل والدين العام..اوالكولسات... والتصريحات...وكيري... والجريمة....والبطالة....وثقة الناس بصناع القرار
تحدث الجميع بلغة خالية من النفاق والتسميع وبحب جارف للوطن....وبعقلانية تجعلك تزهو بانك اردني...
كان في المقهى فريق من الباحثين الاتراك ممن يدرسون اوضاع اللجوء السوري ...اظن انهم افادوا كثيرا مما دار في مقهى الياطر الثقافي......كنت وانا اجلس على كرسي المقهى اتامل وجوه الرجال الجالسين اسال نفسي الى متى تبقى المراة الاردنيه في بلداتنا بعيدة عن فضاءات الحوار وميادين الثقافة.....وكم اتمنى ان يكون في كل بلدة من بلدات الاردن اعدادا من المقاهي الثقافيه لتصبح مثل الياطر ملتقيات ثقافية وفنية وفكريه ننفث فيها دخان الاحباط والعجز والقهر والاحساس بالاهمال وندعو منها الى بناء شخصية وطنية جديده لا تعرف التاكل والاستكانة والتظلم.
شكرا لاسامة تليلان الاردني الذي يعود للمفرق كل يوم بفكرة ويستدرجنا لنرى عالمه الجميل وشكرا لفارس الشديفات والمحامي ابو زهرة والشاعر خالد الشرمان وكرم المحامي ابو زهره واصدقائنا الدكتورعلي الخوالدة وصديقنا النقابي الصيدلاني الذي يعي تفاصيل المكان مثل ابوكساب تماما...وشكرا للمدينة التي اصبحت تعج بالحياة واخذت على نفسها ان تعطي لساكينيها وزوارها من دفء شمسها ورحابة فضاءها وحب اهلها الكثير الكثير.