قد يستغرب البعض من اقتران الجهل بالفضيلة حتى لو كانت الاستثناء الوحيد من قاعدة الرذائل التصديرية لا الذهبية، لكن هناك حالة واحدة يكون فيها الاعتراف بالجهل فضيلة على طريقة الاعتراف بالخطأ.
ومن يعي جهله يشعر بشيء من الخجل، كلما ذكره الآخرون بما ينقصه سواء من العلم أو الخبرة، لكن ما حدث في أيامنا هو أن الخجل من الجهل غاب وتوارى خلف زهو يذكرنا بالفأر الذي يقف على ذيله لأنه اطمأن لعدم وجود مكنسة تطارده أو الى صمت أهل الدار.
إن الخجل بحد ذاته امتياز آدمي، وان كانت بعض الحيوانات كالجِمال والفيلة تخجل ايضاً، لهذا لا بأس أن نضيف الى صفات الإنسان باعتباره حيوانا ناطقاً أو ضاحكاً أو حتى حيواناً سياسياً كما يقول أرسطو صفة رابعة أنه حيوان خجول، وحين يفقد هذه النعمة يصبح كل شيء بالنسبة اليه مباحاً ومتاحاً ايضاً بحيث يفعل كل ما يخطر بباله غير عابئ بالآخرين وأحياناً يكون الخجل الشعرة الدقيقة الفاصلة بين العاقل والمجنون، ورغم كل ما أنجز في عصرنا من تطور معرفي وتقدم تكنولوجي إلا أن هناك شعوباً تعاني من أميّة مزدوجة، أبجدية وثقافية، وحين يفقد الجهل فضيلته الوحيدة وهي الشعور بالنقصان والحلم بترميم ما أمكن من العقل والذات يكون قد تحول الى أداة للانتحار، لكن على طريقة القط الذي لحس مبرد الحديد واستمرأ طعم دمه وهو لا يدرك أن ما يتلذذ به هو عافيته وقد يموت ضحية جهله.
وتاريخنا العربي يعج بالأمثال والحكايات عن جهل انتحاري من هذا الطراز، لهذا قيل إن الجاهل عدو نفسه أولاً، وأن العدو العاقل أفضل منه، ومن تلك الحكايات ما يروى عن الدّب وصاحبه والذبابة التي كانت تحوم على أنفه.
لكن تلك الحكاية ناقصة، لأنها تنتهي بأن ألقى الدّب حجراً على رأس صاحبه فقتله، والقوس المحذوف من الحكاية هو ان الذبابة نجت ولاذت بالفرار لتحوم وتئِز حول أنف آخر.
لم يحدث من قبل أن شهر الانسان جهله كالسيف مزهواً بخوائه وفراغ عقله وروحه، لكن عصرنا أفرز مثل هذه السلالة على هامش ثقافة توقف جزء منها عن النمو في طور العذراء، وكأن هذا الإفراز من الأعراض الجانبية لتقدم علمي متسارع ويحرق المراحل، والمقولة الخالدة المنسوبة للإمام عليّ عن الجاهل الذي كلما ناقشناه غلبنا والعارف الذي قد نغلبه تختصر هذه الدراما الصفراء، ومن يجهل ذاته يجهل الآخرين أيضاً، ولأنه فقير الخيال يظن أن الموت والمصائب والفقدان من نصيب الآخرين، لأنه استثناء، لهذا فهو كالحيوان الذي لا يموت الا لحظة موته، ولا يحزن الا إذا فقد عزيزاً، ويبقى الجهل ناقصاً الى أن يكتمل بغياب فضيلة الاعتراف!