البعد السياسي لملحمة الكرامة
د.حسام العتوم
17-03-2014 02:25 AM
استشهاد القاضي رائد زعيتر ابن السماء حالياً الذي جسّد الأردنية الفلسطينية المتلاحمة والأكثر من أخوية في حياته وبعدها وتحديداً قبل أيام من ذكرى ملحمة الكرامة ومعركتها (21 آذار 1968) الشجاعة والبطلة التي نفذها وواجه نيرانها جيشنا العربي الأردني الباسل وأبناء فلسطين الجبارين باسم شعب واحد عاش تحت مظلة المملكة الأردنية الهاشمية، على امتداد ضفتيها الشرقية والغربية، وعاش نكبة 1948 ونكسة 1967 أي ضياع كامل فلسطين يذكرنا من جيد بأيام اتفاق العشائر الأردنية الفلسطينية في أريحا عام 1948 على نسج وحدة شعبية شرعية شكلت لنا لاحقاً (الوحدة الوطنية)، التي ساهمت بقوة في تحقيق نصر أردني بعمق فلسطيني تاريخي فريد من نوعه ضد العدو الإسرائيلي وباسم كل العرب.
شكلت معركة الكرامة جداراً قوياً عالياً أمام الزحف الإسرائيلي المتتابع تجاه فلسطين والأردن وأراضي العرب، وأجبرت إسرائيل على التفكير مائة مرة قبل الإقدام على أي مشروع احتلالي جديد، وأكثر من ذلك غيرت من مسار تفكيرها الاستراتيجي باتجاه الانسحاب والخروج من بلاد العرب مثلما فعلت لاحقاً في مدينة القنيطرة الجولانية عام 1973 الذي كان لجيشنا الأردني الباسل وفرقته 40 جهداً مباشراً فيه، ومثلما حصل ذلك عام 1979 عندما انسحبت من سيناء بعد معاهدة كامب ديفيد، ومثلما خرجت عام 1982 من جنوب لبنان، ومثلما كررت خروجها من غزة عام 2005، لكنها لم تمنع نفسها من استخدام العصا والجزرة في تعاملها مع العرب ومن تنفيذ احتلالات واستعمارات وعلاقات غير مباشرة وغير رسمية تماماً مثلما زجت أنفها في العراق وسوريا ومصر والسودان ومع دول عربية ثرية غيرها لا داعي لذكرها هنا، وهي المعركة التي أسست لمعاهدة سلام مع إسرائيل عام 1994 لتثبيت الحدود والحصة الوطنية من المياه الإقليمية وقضية اللاجئين رغم إيماننا العميق بأنها لم ولن تعني لنا التطبيع معها لا سمح الله وقدر قبل عودة كامل الحق العربي والإسلامي، وإسرائيل في المقابل أثبتت في حادثة مقتل القاضي زعيتر أنها لا تفهم السلام ولا تبذل جهداً في إيصال رسالته إلى جنودها، الواجب أن تتغير عقليتهم من العداء والعدوان إلى حسن الجوار والأخذ بأهمية استقرار الأردن لهم وسط محيط عربي هائج وغير مستقر، ويصعب على إسرائيل التي زجت نفسها في الحربين العراقية والإيرانية 1980 – 1988 والاجتياح العراقي للكويت 1990 أيضاً سابقاً أن تقارن بين فعلتها المشينة الأخيرة مع القاضي الشهيد زعيتر وبين حادثة الجندي الدقامسة عام 1997 بسبب هوية الاحتلال التي حملتها معها إلى فلسطين وبلاد العرب منذ مؤتمر تيودور هرتزل في مدينة بازل السويسرية 29 أغسطس 1897، وبعد التفاف صهيونيتها على الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين عام 1947 بينها وبين العرب، وبعد تنفيذها للاحتلال عامي 1948 / 1967 بواسطة انتداب بريطاني شكل معاهدة سايكس بيكو 1916 وإصدار وعد بلفور 1917 وتأسيس صندوق للهجرة والاستيطان.
أراد الأردن في عهد عظيم الأردن الراحل الحسين أن تكون حربه الدفاعية في الكرامة و بالتعاون مع الفدائيين الفلسطينيين على اختلاف فصائلهم تحت لواء منظمة التحرير (م.ت.ف) خطاً أحمر فوق كل الخطوط وحرباً تحت شعار (الحياة أو الموت والشهادة)، حتى أنه شكل سرية هندسية انتحارية تحت قيادة النقيب حكم الروسان العميد لاحقاً قبل وفاته، وشكلت القوات الفدائية صفاً متقدماً في حرب الشوارع والسلاح الأبيض، والتحم الدم الأردني والفلسطيني للدفاع عن ثرى الوطن الأردني وعن كرامة فلسطين المحتلة، وكان لقائد معركة الكرامة الميداني اللواء مشهور حديثه الجازي ابن معان البطل دور ريادي فيها وهو الذي جهز لها قبل تسلمه لإشارة ساعة الصفر 5.30 ، وهو نفسه المقاتل الذي خرج من نكسة حزيران غاضباً بسبب صدور أوامر بوقف الحرب قبل حسمها؛ يقول القائد الجازي كما رصده كتاب معركة الكرامة لمؤلفه اللواء محمود الناطور (ص 205): "لقد كانت الكرامة نقطة تحول في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وشهدت تطوعاً في أتونها من الشباب العرب، واعتزال الجنرال الإسرائيلي موشيه ديان للعسكرية بعد نكسة جيشه الذي لا يقهر، وإفشال إقامة إسرائيل لمنطقة عازلة حدودية، وعززت الثقة بين القيادة والشعب واكتساب مكانة مميزة بين الدول العربية لصموده على طول خط المواجهة، وحسب وجهة النظر الفلسطينية فإن هدف إسرائيل السياسي والعسكرتاري تركز على تصفية الفدائيين، بينما روت إسرائيل بلسانها أن حكومة الأردن آنذاك لم تكن معنية بمنع العمليات الفدائية لذلك قررت مهاجمة بلدة الكرامة، التي وصفها الرسول محمد (ص) بأكناف بيت المقدس التي يرقد فيها الصحابة رضوان الله عليهم (عبيدة عامر بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ومعاذ بن جبل و ضرار بن الأزور)
ليست الحروب التي تصنع السياسة فقبل حروب إسرائيل مع الأردن والعرب كان أدولف هتلر النازي قد خاض حرباً شرسة ضد الإمبراطورية السوفييتية في الحرب العالمية الثانية 1940 – 1945 وانتهت بطرده وجيوشه إلى عمق برلين وإلى خروجه من التاريخ في ظروف غامضة انتجت للشرق الأوسط نازية إسرائيلية جديدة تمكنت بإنجيلها المزور وبالتعاون مع إنجلترا وانتدابها المزعوم من تثبيت أرجل اليهودية المتلاصقة تاريخياً و عقائدياً مع الصهيونية وحاخاماتها منذ عهد شورون وبعد ذلك، وفي الكرامة نحن الأردنيون وأشقاؤنا الفلسطينيون وبعمقنا العربي صنعنا السياسة وحولناها إلى سلام حذر بعد كل حرب ظهرت لاحقاً بيننا وبين الكيان الإسرائيلي الذي تحول إلى دولة مبكراً بينما هي دولة فلسطين بقيت أمام سراب، وهي التي انتقد وجودها أصلاً شيمون بيريز الرئيس الإسرائيلي الحالي قبل تسلمه المنصب الرئاسي هذا بسبب أن الأردنيين والفلسطينيين عاشوا تحت مظلة المملكة الأردنية الهاشمية الواحدة ولم يطالب أهل فلسطين بدولة لهم آنذاك، لكن شيمون بيريز تظاهر بأنه لا يعرف بأن عباءته الصهيونية هي التي جردت شعباً كاملاً من أرضه ووطنه وشردته وزجت به في سجونها، وبدأت تتحرك دولياً لقلب معادلة حق العودة والتعويض الفلسطيني إلى حق ليهود العالم، وبدأت تدور حول القدس الشريف لتدويله بدلاً من اعتماده عاصمة أبدية للفلسطينيين، وتعاونت في هذا المجال مع أمريكا لنشر مستوطنات يهودها أيضاً ولتهويد ليس فلسطين التاريخية 1948 فقط وإنما الضفة الغربية أيضاً وتقطيع أوصالها وهو ما ورد في مبادرة جون كيري وزير خارجية أمريكا مؤخراً وقوبلت بصخب شعبي عربي معارض عارم.
عودة على مقتل واستشهاد القاضي زعيتر الذي تزامن مع موقعة الكرامة فإن الخيار العقلاني المقبول سياسياً وشعبياً يقتضي أن توصي الحكومة الأردنية لصاحب القرار سيدنا جلالة الملك بإصدار عفو خاص عن السجين الدقامسة ولو بسبب تشابه حادثته مع ما أصاب القاضي ولترطيب الحناجر الشعبية والأجواء السياسية المستعرة في قلب الشرق الأوسط وبين العرب وإسرائيل، ومجرد الإفراج عنه وهو الذي أمضى 17 عاماً في السجن المؤبد فإن شعوراً عربياً سيرد جزءاً من الكرامة التي فقدوها مع تسلسل الصراع العربي الإسرائيلي وعدم القناعة حتى بالسلام معها وهو المرتبط بالحدود والماء واللاجئين والدولة والوصاية الهاشمية على المقدسات المسيحية والإسلامية في القدس، وفي المقابل آن لإسرائيل أن تفهم بأن سياسة (القلعة) والعصا والجزرة مع العرب خاصة مع من توقع سلاماً قد انتهت، وأصبح مطلوباً منها أن تعود لدفاتر العرب في مجال السلام الكامل والعادل والشامل مثل المبادرة السعودية في بيروت عام 2002 وتسرع في ترجمة بناء الدولة الفلسطينية كاملة السيادة بعاصمتها القدس مع ضمان حق العودة والتعويض وإخلاء المستوطنات من ساكنيها اليهود والقبول بسلام مع العرب بعد الخروج من أراضيهم بدون شروط مسبقة وبما ينسجم مع حدود الرابع من حزيران لعام 1967، فإما السلام أو التشنيج والعنف والحروب والطائفية والعنصرية والشر والفوضى.
تزامن (الكرامة) مع عيد الأم يعكس لنا دورها السامي والهام في المساهمة في إنتاج أبطال المعركة الملحمة التي أعادت الاعتبار والكرامة لكل عربي كان ولا زال يبحث عن النصر والمجد، والأم الأردنية والفلسطينية كانت حاضرة في وجدانها وقلقها في أتون المعركة تتابع أخبار أبنائها وتباشير النصر وكانت أول من زغرد له وللشهداء، وإن كنا هنا في الأردن سياسياً وعلى الأرض نعتبر قيام الدولة الفلسطينية كاملة ا لسيادة والعاصمة مصلحة عليا لنا ولأشقائنا أهل فلسطين خاصة بعد فك الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية عام 1988 وقبل ذلك بعد مؤتمر الرباط عام 1974، ومن أجل تعزيز الهوية الوطنية الأردنية والفلسطينية في المقابل، إلا أننا نعتبر أنفسنا معنوياً نحن الأردنيون والفلسطينيون شعباً واحداً متماسكاً على امتداد الدولتين والهويتين عبر النهر الخالد، والله ولي التوفيق وهو من وراء القصد.